"أمل" تحكّ ساقها المعدنية
د. موسى برهومة
19-05-2008 03:00 AM
ما كان يمكن أن تكون وقفتها مغروسة في الأرض كما يليق بصبية في ميعة الشباب.
كانت وقفة حيرى، ومهتزة، ومبعثرة، ومائلة كغصن هَرم عذّبته الريح.
وقفت(أمل) أمامي بساقها الاصطناعية، وقالت:هذه الساق تبرعت بها عائلة كريمة في عمّان، كي أقوى على المشي،وكي أتمكن من العمل ودفع أجرة غرفة حقيرة في زقاق معتم لا تبصره الشمس في منطقة شعبية على أطراف المدينة.
ورغم وقفتها المتهادية، إلا أن بريقا من ابتسامة غابرة شع من شفتيها، فحرّض أسئلتي وفجر مكامن الدمع في قلب(أمل) التي يرقّ لمصابها الصخر:
كنت أحلم كأي فتاة بعائلة وأطفال وبيت دافئ وزوج محبّ وحنون. ومن أجل ذلك رحت أرفض ُخطّابا وجدت أن طموحي يعلو فوق ما هم عليه من مزايا وصفات.
وبقيت على هذا الحال حتى استشعرت بأن قطار العمر ربما يدهمني وأنا أنتظر.
وكان أن توفي والدي في غضون ذلك، تاركا ورثة لي ولأخوتي الأربعة.
رقّ قلبي لرجل في الأربعين من العمر أسرني وذوّب الحنين في عروقي، فقررت أن أتبعه إلى آخر الدنيا، رغم علمي أن لهذا الرجل زوجة وأولادا.
لم يرضَ أشقائي بهذا الاختيار ووقفوا في وجهي، لكنّني أنصتّ إلى قلبي فقررت الاقتران واللحاق به إلى إحدى الدول العربية بموافقة أحد الأقرباء.
في هذه الأثناء، قرر أشقائي التبرؤ مني وحرماني من سائر حقوقي في ورثة أبي، وأخبرني أحدهم:"راح نخليكي على الحديدة".
أمضيتُ شهر عسل لا أحلى ولا أروع، وكان فيها(زوجي/حبيبي) ساحرا وشاعرا وفيضَ ود وشغف. استأجر لي بيتا خاصا في عمّان بعيدا عن بيت زوجته الأولى وأولاده. قال لي: سأجعلك أسعد امرأة في العالم، ولسوف أسيّجك بالحب والسعادة والهناء.
وعاد العروسان من شهر العسل كأجمل ثنائي، حتى إن كثيرين من الأصدقاء والأهل نظروا إليهما بعين الغيرة والحسد.
تتابع(أمل):
نُمي إلى أسماع زوجي أن أهلي قد حرموني من الميراث. كان فيه عقل وطار. جُنّ جنونه. وكان أول قرار اتخذه أن يجمعني وزوجته وأولاده في منزل واحد. وهنا بدأت أولى الخطى على درب المأساة.
كان يضربني بعنف لا يمكن لبشر أن يتخيله، وياما في ليالي الشتاء كان يلسعني بالنار حتى أشمّ رائحة شواء جلدي، ثم يصحبني إلى المستشفى حينما أصل حد الإغماء، فيخبر الأطباء أنني سقطت في المنزل، أو أن المدفأة أحرقت قدمي، وهكذا دواليك.
وظل الوضع يتفاقم ويزداد قسوة حتى عيل صبري، فلجأت إلى الشرطة وأخبرتهم بحقيقة ما تعرضت إليه من أذى يفوق الخيال طيلة عام. وكانت صدمة الطبيب، الذي حولتني الشرطة إليه لاستصدار تقرير عن حالتي الصحية، كبيرة لما رأى من حروق وتشوهات وكسور افترشت مساحة جسدي.
وبناء على ذلك، قررت الشرطة حبس زوجي 3 شهور.
وفيما هو قابع في حبسه، لم يبق قريب أو صديق أو جار إلا وتوسط لديّ من أجل إقناعي بإسقاط حقي عنه، بضمانة أن يعود شخصا طبيعيا. وكان له ما أراد، حيث قمت بإسقاط حقّي، فخرج من السجن. وهنا كانت دروب المأساة تزداد اتساعا وظلاما.
كنت أشعر معه بارتياب لا أدري مصدره. كنت أحاول أن أصدقه وهو يعتذر ويتودد، حتى جاء يوم قرر فيه أن يصطحبني في "نزهة" لنشمّ الهواء خارج حدود العاصمة ونحكي في أحوالنا ومصائرنا.
استأجر لهذه "النزهة" سيارة سياحية قادتنا بعيدا عن عمّان. داهنمي القلق والتوتر طيلة المشوار، لأنه لم ينبس ببنت شفة. ظل صامتا وساهما يحدق في البعيد، حتى سلك دربا بعيدا عن الشارع العام، مختارا طريقا ترابية قدّرت أنها تقع ما بين إربد والرمثا.
طلب مني الترجّل من السيارة فرفضت. كان الهلع في داخلي يجعلني غير قادرة على الحركة أو حتى الكلام. كنت خائفة إلى حد العجز التام. كل جزء في جسدي كان يرتجف، وكنت أسمع اصطكاك أسناني.
لم يقوَ على انتظار المزيد من رفضي، فراح يسحبني من شعري خارج السيارة بيده، فيما اليد الأخرى تمسك بكيس أسود سرعان ما أسفر عن ساطور جديد لامع بمقبض خشبي راح يهوي به على جسدي مركزا على ساقي التي لفرط ما تكسرت عظامها غبت عن الوعي غارقة في دمائي.
صحوت، إذ صحوت، في إحدى المستشفيات الحكومية وسط سيل كبير من التساؤلات عما جرى. أمضيت في المستشفى ثلاثة أسابيع، خرجت بعدها، لأستأجر غرفة في منطقة شعبية أحسست خلالها أن قدري أن أعاشر الأشرار. لكنّ قوة داخلية انبثقت في داخلي تحفزني على عدم اليأس.
بيد أن آلام ساقي راحت تعاودني على نحو مبرّح لا يمكن احتماله. فحصها الطبيب وقرر أن يقطعها لأن "الغرغرينا" استوطنت فيها.
صرت أتوكأ على ساق وعكازة. وبقيت على هذه الحال حتى التقيت سيدة فاضلة في عمّان رقّ قلبها الكبير لوضعي، فأبلغت ابنها وهو طبيب جراح أن يساعدني على ترميم ساقي من خلال عملية تجميلية تكللت بتركيب ساق اصطناعية رحت أخطو فيها أولى الخطوات نحو البحث عن عمل والبدء من جديد في استئناف المشي في دروب الحياة.
اهتديت إلى مشغل للخياطة عملت فيه بما يسد قوت يومي وسجائري. وهناك تعرفت إلى شاب من جنسية عربية وقررنا الارتباط حالما يعود من سفره لترتيب إجراءات الزواج، علّ الحياة تبتسم لي من جديد، وعلّ..وعلّ.
ولكنّ الزوج المنتظر لم يأت بعد،
وها أنا في المشغل أدخن، وأتنهد وأحكّ ساقي المعدنية.
mussaben@hotmail.com
الغد.