الطريق للعقبة .. يبدأ بطفلة عارية فقراً
18-05-2008 03:00 AM
نتخيل احيانا إن بعض المسؤولين في بلادنا ، لو قيض لهم أن يتمكنوا من السحاب ، لأمروا تلك الغيمة أن تمطر هنا ، ولا تمطر هناك ، وأن يعم المطر عاصمة ما ، أو مدينة ما ، أو الجزء " الغربي " دائما من المدينة ، وأن ينحبس المطر عن الجزء "الشرقي " من أي مدينة .. فالحمد لله وله العزةّ .
تضطر آسفا ، أن تشد رحال همتك ميمّما شطر الجنوب الأردني ، كما فعلت ، ذات اضمحلال ٍ للذاكرة ، لتصل قافلة خطواتك ، الى مدينة العقبة ، التي يتنعم بشواطئها كل غريب عنها ، وكل عابر وطن ، وكل حميم متعة ، وكل مأذون مالي ، يزوج المليون بالمليون لتصبح عنده أسرة من الملايين ، دون عناء البحث عن مأوى ، " فالسلطة " لم تترك لأولئك " المستثملين " مجالا للعناء ، فالأرض بيعت لهم بسعر أرخص من دمعة أمّ ، والضرائب لا تكاد تعلو على شهيق عجوز "عقبواي " ، وفي المقابل فإن أهل العقبة ، وأفواج الأرادنة الذين وفروا ثمن خمسة كيلوات من الفاكهة ، ليذهبوا للعقبة على متن الحافلات العامة كي يستمتعوا بالتخبط على مياه الشواطىء العقباوية البحرية الحمراء ، لا يجدون عشرة أمتار شاطئية ، فكل الشواطىء لها أهل ، إلا شواطىء الشعب ، فالحرمان والضيق وبقايا فضلات الناقمين على حياتهم ، أهل لها .
هناك شاطىء فقير ، يسمونه شاطىء ( الغندور ) مررنا به ليلا ، وكأننا على شاطىء بحر محاصر ، تترصد الأصفاد بالمهاجرين السود غير الشرعيين ، الذين لا يعرفون في الحياة سوى تضاريس أجسادهم ، ونتوءات العظام التي تخترق جلودهم ، ممن تتصدى لهم قوات المنع في إسبانيا وبقية فرق الحجر الصحي الأوروبية .
الشاطىء قذر ، ومكتظ ، وغير صحي ، واعتقد حتى انه غير مراقب ، فمنظر بعض الشباب ، على الكراسي البلاستيكية ينبئ بمشكلة عقلية ، فهم نائمون ، وعيونهم جاحظة ، لا أدري لماذا .. وطاولة أخرى لشبان يقهقهون ويصفقون ، بعد ان احتضن أحدهم الآخر وأخذ بتقبيله وضمه ، لم أعرف السبب حقيقة ، وهم بالمناسبة غير شاذين بناء على المظهر العام لهم ، بينما " العائلات " تكتفي بالتجول في ساحة تنتصب بوسطها سارية العلم ، وتضم قلعة الحسين بن علي طيب الله ثراه ، وتبقى العائلات تحترس على أطفالها وفتياتها من الشبان الذين يقودون دراجات ذات الأربع عجلات بسرعة وسط الساحة الضيقة ، والفرسان الصغار على صهوات خيولهم ، تكاد حوافرها ان تدك ظهر طفل جالس على الأرض ، بينما أربعة رجال أمن يمتلكون أربعة مقاعد بلاستيكية هي الوحيدة الموجودة في تلك الساحة التي تباع فيها القهوة والشاي والتسالي من " عرباية " ، اعتقد إنها اشتركت مع قوات الثورة العربية الكبرى ، والرصيف هناك يتباهى بالوساخة والتلويث لأي مؤخرة تقترب منه جلوسا .
في المقابل ، فإن كنت تبغي لعينيك ان تتنعما برؤية التمتع الأرستقراطي ، فتستطيع أيها الفقير الذي لا حاجة للحياة بك ، ان تتوجه الى الجهة الغربية من الامتداد الساحلي ، حيث فنادق الخمسة نجوم ، شريطة أن تبقي يدك في جيبك ، لتبحث لك عن مجموع راتب موظف حكومي عادي ، ومعدل دخل أسرة شهري ، لتطلق لقدميك الزحف على رمال شاطىء نظيف ، مليء بالنظارة ومقاعد الاستجمام ، والمياه الزرقاء ، والرجال المفعمين بالنظارة ، والنساء الدائخات أنوثة وشقارا ، عبر الزمن وعبر الرحلات الجوية الى العقبة ، التي انتثرت رمالها ذهبا بين أيدي المستثمرين ، وأمطرت سماءها دموعا على رؤوس المواطنين .
أما في الجزء الشرقي من المدينة ، حيث الجيب الأقرب الى الجبال ، فلن أزعج عيونكم ، بقراءة الواقع البكائي ، والمرّ ، لسكانها ، فهم لا ينامون داخل بيوت الصفيح والزينكو ، والطوب ، فمعظمها مخصص لماعزهم وأغنامهم ، وهم يستمتعون كما غيرهم بلفح الشمس ، وتناثر النجوم بين عيونهم لؤلؤا ، ليلا ، على تراب الارض ، وبين الشعاب ، وفي عرض مجاري السيول ، وفي وسط شوارع تذكرنا بمخيمات اللجوء التي انسحبت عنها اليوم مظلة الأنوروا !
ورغم إن العقبة الخاصة ، أعطت المستثمر فيها إعفاءات وحوافز ودعم كبير ، فإنك لا تتفاءل كثيرا بوجود عمالة أردنية في العديد من محلاتها ومتاجرها ، وأسواقها ، فالباعة والعمال والعمالة الشرق آسيوية هي المسيطرة على تلك السوق ، وليذهب شباب البلد العاطل عن العمل الى الجحيم .
لن أذهب بعيدا ، لأسأل السؤال الأهم .. ماذا استفاد الوطن ، من كل تلك المشاريع التي أقيمت ، وستقام في منطقة العقبة ، وتحول المشاريع السياحية الضخمة هناك الى أسواق لبيع منتجات المشاريع ، وتبدلت المنتجعات الى شقق ، وغابت الفنادق عن الخطة ، وحلت محلها مساكن الرفاهية ، ليشتريها أصحاب الملايين فقط ، ويضرب فقراء الأمة والذين لا يستطيعون شراء ليلة واحدة في أحد فنادقها الكبيرة ، بكف الصدّ ، والحرمان ، والنظرة المحرمة ، لتبقى أنفسهم حارة في أسئلتها ، بين ماذنبنا ، وبين ألم نستأهل ما يجري لنا ، مرورا بالسؤال الأكبر : كيف حدث كل هذا .
العقبة .. عدت لها بعد خمسة عشر عاما ، وظننت وأنا أهمز في ذاكرتي ، إنني سأجد كثيرا من مظاهر الفقر والنسيان والحرمان ، قد ولتّ وذهب زمانها ، ولكن عند أول مشهد بعد " سجن سواقة " صفعتني كف الواقع ، وبددت أمنياتي الحالمة ، حتى بدأ أول مظهر كئيب يغزو رحلتي قبل مسافة رغيف عن مدخل بلدة " القطرانة " حيث مشهد طفلة عارية تماما تجلس بجانب شقيقها على رصيف الشارع العام ، وكل المارين من هناك ينظرون لها ، وكأنها لا تهمهم ، وكأنهم قادمون من الفضاء لغزو هذا البلد ، ولم تنتهي مشاهد الكآبة عند سحب التلوث المتصاعدة من حقول الفوسفات عبر " منتجعات الفقر في الحسا " ، فدوريات الشرطة الخارجية تلعب دور فترات الدعاية في مسلسل الرحلة ، حتى يخيل لك إنك ذاهب باتجاه مدينة عسكرية شديدة الحساسية ، ولكن الفرق هنا ، إن دوريات الشرطة لا تمنعك من تجاوز السرعة على الطريق السريع ، أو مخالفة قواعد السير ، بل إنها تحرر لك مخالفة تدفعها فورا ، لأن عدم الدفع يعني حجز رخص القيادة ، ومن سيأتي لك بها من " معان " مثلا ؟
للعلم فقط ، فإن السرعة القصوى على الطريق السريع باتجاه العقبة ، هي 80 كيلو متر في الساعة ، ويستطيع أي حصان أو بعير أن يسبق أي سيارة حديثة تسير بتلك السرعة ، لتصل الى "عقبتنا " دون ان يكلفك السير خمسون دينارا مثلا هي نصف ماكنت تظن إنها تكلفة الرحلة والاستجمام الى شواطىء ثغرنا المقهقه .. وهنا نسأل : أليس حري بمسئولي مخالفات الطرق الخارجية أن يعيدوا النظر بالسرعات المحددة ، وان لا يضعوا دورياتهم وكأنها مصائد مغفلين ، فالطريق طويل وممل وقاحل وليس فيه ما يفرح ، فخففوا على الناس ، عل الله يغفر لكم ذنوبكم ، ويكفرّ عنكم سيئاتكم ، ويتجاوز عن خطاياكم ، ويرزقكم بجولة ممتعة ورائعة الى مدينة العقبة لا تكلفكم رواتب سنة كاملة من نكد العيش وسأم الوظيفة .
أخيرا .. سنعود الى العقبة قريبا ، وسنبحث في تفاصيلها التي لم تصلنا من قبل سوى عبر الفاكس والمراسلات المنمقة ، ونرجو ان لا تكون العقبة هي إحدى العقبات في مسيرة الرجاء الأردنية ، فالطريق اليها لا تقف عند طفلة عارية فقرا على طريق الصحراء ، ولا عند امرأة عارية بذخا على شاطىء الرمل الذهبي الذي يغسل قدميه البحر الأحمر ذلك البحر الذي لم يفرحنا يوما برفد سوق السمك الأردني بأي سمكة على مستوى تجاري .
لقد حاولت ان أكتب عن الجمال في العقبة ، فوجدت إن غيري من الكتبة، قد أغرقوا في مدحها طمعاّ بإعلان أو عطية أو استضافة ، ونسوا أن يكتبوا عن العقبة المدينةالأردنية الشعبية ، فعذرا .
royal430@hotmail.com