أشغلنا القوم في رام الله قبل يومين بسؤال هل استقال عباس من اللجنة التنفيذية أم لم يستقل. خرج تقرير وكالة فرانس برس يقول إنه استقال، وطارت به الصحف والوكالات والفضائيات، وظن بعض الطيبين أن الرجل قد أصابه الزهد من كثرة المسؤوليات التي يحملها، وأنه ينوي التخفف من بعضها، فهو رئيس السلطة، ورئيس حركة فتح، وهو زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، والقائد العام لقوات الثورة الفلسطينية (أين هي الثورة؟!).
لم نفرح طويلا، فخرج كبير المفاوضين الذي يعاني البطالة هذه الأيام (مع بعض اللقاءات السرية هنا وهناك!!)، ليخبرنا أن الرئيس لم يستقل من اللجنة التنفيذية، ولا أي أحد آخر، لكن التوضيح يكشف أن الأمر سيتم من خلال المجلس الوطني لأن الاستقالات يجب أن تقدم إليه.
تفصيلات تتعلق بالقانون الأساسي واللوائح، من يسمعها يظن أن القوم يلتزمون بالفعل بها على الطريقة السويسرية، فيما يعلم القاصي والداني أن حركة ومنظمة يتحكم الاحتلال بها عمليا لا يمكن أن يُعاد إنتاجها على نحو يصادم برنامجه بشكل واضح، فهو من يُدخل الناس وهو من يخرجهم، وهو من يمنح بطاقات الفي آي بي، وهو من يسحبها وقتما شاء.
بعيدا عن أية تفصيلات مملة قد لا تعني القارئ غير المتخصص في قصص من هذا النوع، فنحن إزاء لعبة سيستعيد من خلالها محمود عباس سيطرته المطلقة على المنظمة، ومعها حركة فتح، وحتى السلطة، وبالطبع بعد أن ارتخت القبضة قليلا لأسباب عديدة؛ أهمها بكل وضوح وجود خصم لا يكل ولا يمل، يتحرك هنا وهناك، يشتري هذا ويقرب ذاك، وغالبا بسطوة المال.
إن في منظمة التحرير، أم في حركة فتح، هناك أشخاص لم يعودوا يروقون للسيد الرئيس، ولا ينسجموا مع مزاجه الشخصي، وليس الثوري ولا السياسي بكل تأكيد، إذ لا نلحظ أية فروقات في الطرح السياسي بين جميع الفرقاء، ولذلك فإن هدف الطبخة هو التخلص منهم، ومن ثم تأكيد حالة السيطرة التامة لعباس على كل شيء، ولا قيمة لحكاية الثمانين التي بلغها الرجل، فهو لا يزال شابا (من الناحية الصحية) كما يرى، ويمكن أن يعيش ويسيطر إلى أمد لا يعلم إلا الله مداه، وفي حال تدخل القدر، فيمكن لصائب عريقات الذي ارتقى لمنصب أمين سر اللجنة التنفيذية، أن يتبوأ المنصب، أو أي أحد آخر.
سيُعقد المجلس الوطني في جلسة طارئة بمن حضر (من يوافق الاحتلال على دخوله بتعبير أدق)، ويجري انتخاب لجنة تنفيذية جديدة على مقاس الرئيس، ثم يتبع ذلك اجتماع آخر للمجلس الثوري لحركة فتح، ويُصار إلى انتخاب لجنة مركزية، وأيضا على مقاس الرئيس، ثم يمضي كل شيء كما هو مخطط له، أي سلام اقتصادي، أو تكريس لمشروع شارون للحل الانتقالي، وحيث لا حديث إلا عن المال والأعمال والاستثمار، مع فعل يومي في مطاردة شبح الانتفاضة في الضفة كي لا تفسد على القادة والأبناء حياتهم!!
هذه هي حكاية عباس الأخيرة التي أشغلت وسائل الإعلام، وهذا هو واقع القضية في تيهها الراهن، والذي نخشى أن يتكرس أكثر باتفاق تهدئة في غزة يؤكد مشروع شارون، ويحرمنا من أمل ننتظره يتمثل في انتفاضة شعبية شاملة تكنس هذا الواقع البائس، وتعيد القضية إلى سكتها الصحيحة كقضية نضال ضد احتلال بشع، وليس كقضية رواتب واستثمار، وحصار وإعمار.
الدستور