يحاول تسديد كل شيء قبل مغادرته، قسط الضمان، فاتورة الكهرباء ، نقوط الناجحين، هدايا المتزوّجين.. ثم يتناول»حبة» رضاَ علّها تبطئ قليلا من نبضه الحزين...
**
في الأيام الأخيرة من الإجازة ، تطول السهرات نصف ساعة إضافية ، ونصف ضحكة إضافية ، في الأيام الأخيرة من الإجازة يصبح لكوب الشاي الأخير طعم مختلف، ويصبح النعناع سيدّ المذاق الليلي، وللنسمة الهاربة من سجّانها الصيف رائحة الحرية ...في الأيام الأخيرة من الإجازة تصبح الابتسامة مختصرة ،ونظرات العيون بعيدة وواسعة كشاطىء المحيط، مهمّتها الأولى أن تسيّج الدار والليل والذكريات التي مرّت سريعاً في «أربعينية» الفرح..
**
ثمة علاقة غريبة بين المسافر والحقيبة ...قبل الوصول إلى الوطن ..الحقيبة هي أول ما يُجهّزّ، وأول ما يُحمل، وأول ما يُفتح..وقبل مغادرة الوطن ، الحقيبة غولٌ بيدٍ واحدة وأربعة أرجل...تفوح منها رائحة السفر المعتق ، والسهر المعتق، والقلق المعتّق :لذا فهي آخر ما يُرتّب، وآخر ما يُحمل ، وآخر ما يُفتح...
في الأيام الأخيرة من الإجازة يتجّنب المسافر النظر إلى أعلى الخزانة ، كي لا يرى لسان الحقيبة المدلوق إلى ألأسفل ساخراً من عمره المسكوب على أدراج المطارات، في آخر أيام الإجازة تصبح الحقيبة جواز سفر من قماش..كلما رآها تلمّس أجنحة الغربة القاسية كجناح نسر...
**
كنت أسرح كثيراً عندما تدور الحقائب على «حزام الأمتعة» ، تشدّني العلامات الفارقة التي يضعها المسافرون على حقائبهم ،خيطان سوداء ، قطب حمراء ، لواصق على المقبض..»الأستاذ أبو مؤيد» كتبت على واجهتي الحقيبة العلوية والسفلية لا بد انه معلّم معار من وزارة التربية والتعليم..م.عبد الكريم أحمد..شاب يركزّ على «الميم» التي تسبق اسمه أكثر من «الغين» التي ستطارد غربته، الا تعلم أن أصل «الغين» عين دامعة يا صديقي!!...وثالث آثر ان يكتب اسمه ورقم هاتفه بالانجليزي واضعاً احتمالية أن عمال المطارات الأسيويين لا يجيدون قراءة الحقائب الضائعة..ماذا يعني لو اختلطت الحقائب أو مسحت الأسماء المكتوبة ما دامت الأحلام موحدة؟!!...ماذا لو اختلطت الحقائب ذات الألوان المتشابهة ما زال في قلبها كيس زعترٍ ووطن وذكريات مفرغة من هواء البلاد؟!...
**
كلما شاهدت «حمّال الحقائب» يرفعها بخفة ودون اكتراث ليرميها على الحزام ، صحت به رفقاً رفقاً يا هذا..الا تعرف انك ترمي نصف العمر!!..
**
في الحقيبة، حنين مجفف، ميرمية الدار، «اكليل الجبل»، خافضات الحرارة ، وقمصان يوسف التي قُدّت من «عُمُر»...في الحقيبة نصف الحقيقة، ومكالمات هاتفية قطعها نفاد الرصيد،في الحقيبة صدى النداء الأخير، وفنجان قهوة شرب على عجل قبل السفر ، في الحقيبة صوت أختام الخروج عند شرطي المطار..وهدير عجلات موغلة في الإقلاع..في الحقيبة ،خصلة ياسمين ناعسة ،ودمعة وقفت على زجاج العين لحظة المطر..
الراي