بات الأردن في حاجة ماسة إلى تحصين جبهته الداخلية وتنويع سلة خياراته الدبلوماسية بعد فشل الرهان على قوى الإدارة الأمريكية الحالية لحماية مصالحها الأساسية المشروعة في شرق أوسط جديد تتصارع واشنطن وطهران على بسط نفوذهما بين أطرافه.
فلم يعد تماسك الجبهة الداخلية ترفا فكريا بل أضحى أولوية من خلال فتح قنوات الحوار والمشاركة المرتكزة إلى مرجعية الدستور وصولا إلى توافق مجتمعي حول وجهة التحديث ودور الدولة وتحسين مستوى معيشة المواطن. هذه الآليات أصبحت ضرورية للوقوف في وجه الخطر المقبل من الجبهة الغربية, لأن الدولة الفلسطينية المستقلة المقبولة للجميع التي كان وعد بها الرئيس الأمريكي جورج بوش لن تقوم مع انتهاء ولايته الثانية بعد سبعة أشهر.
فشل العملية السلمية التي راهن الأردن عليها كاستراتيجية أساسية لحماية أمنه واستقراره, يعني بالضرورة أن أمريكا وإسرائيل ستشرعان في استحضار حلول بديلة شرقي النهر.
وسيعود الضغط باتجاه "الخيار الأردني" - أي دفع المملكة للعب دور أمني وإداري مباشر في بقايا أراضي الضفة الغربية تفضي في نهاية المطاف إلى إلحاق السكان من دون أرض بالأردن لأن الدولة العبرية لن تتنازل أبدا عن أطماعها التوسعية وعن ما تصفه بفكرها التلموذي ب¯ "يهودا و والسامرا".
الخيار الأردني مرفوض من رأس الدولة وسائر هرم السلطة لأنه ببساطة يعني بداية انتحار سياسي لبلد نصف عدد سكانه من أصول فلسطينية, غالبيتهم لمّا يحسموا بعد أمر هويتهم الوطنية بانتظار إقرار حق العودة والتعويض.
في الذاكرة الأردنية القريبة التفاف مكونات الشعب كافّة حول القائد والوطن عندما تعرض الأردن لامتحان مصيري مماثل إبان حرب الخليج الثانية, بين عامي 1991 و 1992 بعد أن رفض الانضمام إلى تحالف عسكري بقيادة واشنطن لإنهاء الاحتلال العراقي للكويت.
وقتها استطاع الأردن أن يصمد في وجه العزلة السياسية والاقتصادية التي فرضت عليه قبل أن يعيد تأهيل نفسه مع المجتمع الدولي عبر بوابة معاهدة سلام مع إسرائيل عام .1994 جاء ذلك بعد أن باغتته القيادة الفلسطينية عام 1993 بتوقيع اتفاق أوسلو حول الحكم الذاتي الانتقالي.
وفي الذاكرة الحديثة تعبئة شعبية شاملة وخندق واحد, حين هبّ الأردن للتنديد بالإرهاب المقبل من القاعدة شرقا عقب مقتل 60 شخصا في ثلاثة تفجيرات متزامنة أواخر .2005
مع عودة الحديث عن "الخيار الأردني" سيكون من الصعب الرهان على الجبهة الداخلية التي أضحت سهلة الاختراق. إذ تضعضعت مع تنامي فجوة الثقة بين الحكومة والشارع, وتناسل مظاهر الفساد والإفساد, وضياع مفهوم التحديث الشامل بين ازدواجية القول والفعل وتنامي الحقد الطبقي بسبب اتساع الهوة بين متدني ومرتفعي الدخل.
ساهم في ذلك أيضا تراجع الدور الدستوري للبرلمان والحكومة في اللعبة السياسية لصالح مراكز نفوذ أخرى, كما واصلت الحريات السياسية الإعلامية بالانحدار وغابت الشفافية والمساءلة وسط ترهل بيروقراطي وإداري كارثي.
في الأثناء عجز المجتمع المدني والأحزاب الوطنية في تشخيص الهم الوطني. وانقلبت أسس اللعبة بين الدولة والتيار الإسلامي بعد ستة عقود من التحالف المصالحي بعد دخول قوى إقليمية على خط الإخوان لتكسر وحدة الصف والكلمة.
التوتر الداخلي يأخذ منحى تصاعديا بالتوازي مع حجم التهديد الخارجي. وبالتالي لا بد من سرعة البحث عن طريق اقتصادية-سياسية ثالثة لمواجهة الأزمات الخانقة وردم هوة الصراع على النفوذ والمكاسب بين ما بات يعرف بمدرستي "الحرس القديم والحرس الجديد", وهما في كر وفر منذ جلوس الملك عبدالله الثاني على العرش قبل تسع سنوات.
الشد والجذب بين الخندقين بات يحمل في ثناياه تطاولا على هيبة الدولة وتدني مستوى الخطاب مع ارتفاع منسوب الاتهامية والشخصنة ليعكس ثقافة كراهية مغلّفة بتحريض جهوي وإقليمي يهدد النسيج الاجتماعي الحساس أصلا.
المطلوب أيضا اشتقاق اقتصاديات جديدة توازن بين مدرسة تؤمن بالإغراق في الخصخصة واللبرلة ضمن وصفات عالمية لا تقيم وزنا للوقائع الاجتماعية والخصوصية الداخلية ومدرسة أخرى تؤمن بتكريس دور دولة العطايا والقطاع العام للمحافظة على التوازنات الحساسة داخل الدولة والمجتمع. المدرسة الثانية لا ترى ضيرا في زيادة النفقات الجارية على حساب الرأسمالية و لا يهمها كثيرا توفير مناخ جاذب للاستثمارات لأنها ليست ضمن النخبة الاقتصادية المتنفذة التي تستفيد من سياسات الانفتاح وجذب الاستثمار.
لمواجهة الخطر السياسي المقبل, لا بد من بدء حوار وطني والانفتاح على قوى المعارضة شريطة التزامها بالدستور والقانون للاتفاق على ثوابت وطنية تضبط مكونات المجتمع كافة وتحافظ على الأمن والاستقرار في ظل نظام ملكي شامل. الثوابت الوطنية عمادها الالتزام بالدستور وبالعلاقات الدولية الاستراتيجية التي أقامها الأردن مدعومة بشبكة قوانين واتفاقيات بما فيها معاهدة السلام.
هكذا اتفاق على الخطوط الحمراء يمهد لرسم خارطة طريق بما يعزّز مسار التحديث الشامل للدولة بما فيها العودة إلي خيار الديمقراطية الذي خرج عن السكّة منذ عام .1994
يتطلب الجهد الوطني أيضا صياغة عقد اجتماعي جديد يحدّد حقوق وواجبات الدولة تجاه مواطنيها في ظل القانون والمواطنة والمساواة في الحقوق المدنية بدلا من استمرار التخندق وراء حساسيات عفى عليها الزمن.
بذلك يكون الأردن قد مأسس التغيير الداخلي والتحديث من خلال توسيع قاعدة المشاركة الشعبية.
توحيد اللغة والأهداف والثوابت يخفّف من التشكيك والتشويش الذي يرافق كل قرار يتخذ مهما كبر أو صغر ويساعد على التعاطي بأقل الأضرار الممكنة مع تداعيات قيام أمريكا وإيران تقسيم الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ قائمة على توازن رعب, ومصالح على حساب الموقف العربي الجامع في فلسطين والعراق ولبنان.
بموازاة ترتيب البيت الداخلي, يجب العمل على تنويع سياسات الأردن الخارجية لحماية مصالحه بين محوري الممانعة والسلام ضمن المحددّات التي تتطلبها الإبقاء على تدفق الدعم الاقتصادي القادم من أمريكا والسعودية. بات من الضرورة التفكير أيضا في الانفتاح على حركة حماس والمتوقع ان تفرز رئيسا فلسطينيا في الانتخابات الرئاسية مطلع العام, المقبل.
المطلوب أيضا أن تظهر الاتصالات الأردنية-الإيرانية فوق الطاولة. فالسياسة فن الممكن. والأعداء مثل أمريكا وإيران يتشاركان في إدارة الملف العراقي, وربما توصلوا إلى تسويات في لبنان وفلسطين تؤدي إلى شراكة في الحكم بين مكونات موالية لأمريكا ومناوئة لها.
فالاشتباكات الأخيرة في لبنان, بين المعارضة والموالاة, على أنغام موسيقى الحقن الطائفي, مقياس آخر لواقع العالم العربي في زمن اختارت فيه السعودية ومصر, مركزا الثقل العربي التقليدية, الاصطفاف على اليمين وتغليب المصالح الوطنية على العربية.
بعد فلسطين, حقق محور الممانعة نصرا آخر في لبنان. إذ تكرّس حضور حزب الله كلاعب رئيسي يتحكم بالقرار الحكومي والرئاسي والأمني ووقفت قوى الموالاة التي تمسك بالسلطة عاجزة عن وقف الانقلاب العسكري-السياسي بعد ان خذلتها أمريكا وفرنسا.
بان عجز دول الاعتدال العربي مرة أخرى في النجاح الذي حققه محور إيران عبر نجاح الوساطة القطرية في لبنان. الحياة عادت إلى طبيعتها في بيروت. العصيان المدني جمد والدوحة اليوم تستضيف الفرقاء اللبنانيين لعقد مؤتمر للحوار الوطني سيكون في حال نجاحه بديلا عن اتفاق الطائف وبداية لإعطاء الطائفة الشيعية دورا سياسيا في المعادلة الداخلية, في ثاني دولة عربية بعد العراق. والحبل على الجرّار في دول خليجية ذات تركيبة مذهبية مماثلة.
غياب التفاهم الاستراتيجي بين دول الاعتدال العربي جعلها غير قادرة في التأثير على مجريات المشهد الإقليمي الجديد. هذا الواقع تختزله كلمات مسؤول أردني قال في مقابلة مع "العرب اليوم" إن الأطراف الفاعلة في المنطقة - أمريكا واسرائيل والقاعدة من جهة وايران وسورية وحماس وحزب الله من جهة أخرى - تحصل على كل ما تريد لأنها فهمت لعبة تغيير الموازين وتخطّط للوصول إلى أهدافها. في هذه الأثناء تجلّى ضعف "فيلم دول الاعتدال" التي لم تنجح حتى في سحب سورية من الحضن الإيراني لتحقيق التوازن المطلوب.
ذلك يعني أيضا انكشاف ظهر دول صغيرة محدودة الموارد الطبيعية كالأردن لا تملك نفوذا سياسيا (مثل مصر) أو ماليا (مثل السعودية) أو عسكريا لإسماع صوتها أو التأثير في توازنات الإقليم قيد التشكّل.
لذا, لا بد ان يفعّل الأردن دبلوماسية الحياد الإيجابي الانتقائي للتعامل مع المتناقضات ومع الحلفاء والأعداء بأقل الضرر الممكن بالتزامن مع تحصين الجبهة الداخلية قبل مطلع ,2009 عندما سيضطر الى تغيير خطابه الرسمي مؤذنا بدفن عملية السلام.
العرب اليوم.