المولودون في ذيل العائلة.. لا يحفلون بكثير من الذكريات، تماماً كمن يتابع الفيلم في نهايته، قبل أن يفهم الحكاية جيداً .. يموت «البطل»!.. وأنا كذلك قبل أن أفهم الحياة جيداً مات أبي...
**
في مثل هذا اليوم قبل 28 عاماً.. مات أبي، كنت طفلاً خجولاً، عاطفيا، قليل الكلام، أخاف الظهور ...منكبّا طوال العطلة الصيفية على حفظ جزء «تبارك» مع معاني الكلمات وسبب النزول .. كنت مستعداً لتسميع سورة «المجادلة» عن ظهر قلب مع احكام التجويد لكني لم أكن مستعداً على الإطلاق أن أحمل لقب «يتيم» في مثل هذا العم، باختصار لأنني لم أكن أفهم كيف تحني الحياة ظهرها للموت؛ الحياة هذه الكلمة الواسعة تنهيها «تاء مربوطة» ومقفلة بينما الموت القصير المفاجىء «تاءه مفتوحة» إلى ما لا نهاية وكأنها تسخر منّا جميعاً ؟...
ثم كيف يموت أبي هكذا فجأة كما يموت أبطال المسلسلات... وهو سيد الليل وسيّد السهرات... كيف يموت وأشياؤه كلها حاضرة حولي، جاكيته «البني»، مصحفه القديم ، ثوبه الرمادي.. مسبحته «العسلية»، أختامه، جوازات سفره الملغاة..
قبل 28 سنة، كنت أخجل أن أبدي حزني على الملأ، فقد أفهمونا أن الرجال لا تبكي، ترى لمَ لا تبكي الرجال؟... ثم أنني مجرد طفل رقيق فاجأه الموت العنيف الجارف كما يفاجئ القطار زهرة على سكّة... دعوني أبكي طويلاً.. فالأزهار تبكي «ندى» صباحياً من عتمة الليل .. والسنابل تبكي حصادها بحناجر الريح...
لم لا أبكي؟ دعوني أبكي فالدموع حبر الحزن المعتق.. عيبٌ فالرجال لا تبكي!. من أجل هذه العبارة ..أجبرت أن أمارس حزني بسرية تامة، أبكي تحت «اللحاف» أتعاطاه خلسة وأوزع الدموع على المدامع كمنشورات سرية طيلة ربع قرن..
من اخذ مطعوم «اليتم» مبكّراً... لا يكبر على الإطلاق وإنما «يتورّم» عمره.. حتى اللحظة، ما زلت احن إلى جبهة أبي المجعّدة كأسراب طيور مهاجرة، احن الى طريقة تثبيت «عقاله»..إلى حاجبيه الكثيفين ، إلى خنجره البارز فوق زر «الثوب»..إلى طريقته المميزة في التدخين، إلى «الجولد ستار» سعودي، إلى مرآته الدائرية وحقيبة الجلد التي تحتوي أدوات الحلاقة و مكعّب «الشبّة» ، إلى صوره القليلة القليلة في الألبوم الأخير..
في «آب» .. كلما طرقت الذكرى نافذة الغياب..تركت باب العمر «موارباً» علك تعود ولو حلماً..
الرأي