بفارق يومين اثنين غادر دار الدنيا اثنان من المشاهير، الأول تصدر المشهد الفكري والفقهي، هو العلامة الفقيه الدكتور وهبة الزحيلي، الذي خلف وراءه كنزاً من الكتب والموسوعات التي قدحها زناد فكره، وشكلت إضافة نوعية للمكتبة الإنسانية، بالإضافة إلى الآلآف من تلاميذه الذي صار بعضهم علماء يشار اليهم بالبنان، يسهمون في الذود عن بيضة الأمة فكراً وعقيدة وحضارة. أما الثاني فتصدر المشهد الفني، هو الممثل نور الشريف الذي خلف وراءه أفلاماً ومسلسلات ومسرحيات تسلي واستمتع بها الآلآف من الناس، جسد من خلالها أفكارا لآخرين من كتاب ومخرجين و رؤاهم.
لست هنا بصدد المقارنة بين الرجلين الذين اختار كل منهما منهجاً وطريقاً يختلف تمام الاختلاف عن الآخر، لكنها مناسبة للحديث عن واقع الأمة من خلال التعامل مع واقعة الوفاة المتزامنة للرجلين، فبينما غاب خبر المفكر والفقيه غياباً شبه تام عن وسائل الاعلام المختلفة، تصدر خبر وفاة الممثل العناوين الرئيسية لنشرات الأخبار المرئية والمسموعة، مثلما تصدر العناوين الرئيسية للصحف العربية حتى تلك الرزينة العابرة للحدود منها، بل أن بعضها جعل من خبر وفاة الممثل عنوانه الرئيس، بالإضافة إلى نشر صورة كبيرة أو أكثر للفنان على الصفحة الأولى، هذا بالإضافة إلى البرامج الإذاعية والتلفزيونية والتقارير الصحفية التي تتحدث عن
مناقب الفنان الراحل، وتذكر بأعماله وخلوده، في الوقت الذي غاب ذلك كله بالنسبة للفقيه والمفكر.
إن هذه الطريقة في التعامل مع وفاة المفكر الفقيه ووفاة الفنان الممثل، تؤشر بوضوح إلى الدور التدميري الذي يلعبه الإعلام العربي في حياتنا، من خلال غرقه من أخمص قدميه حتى قمة رأسه في مؤامرة قلب مثلث الفكر والثقافة، ومن ثم القيم والمفاهيم، ومعنى القدوة والنموذج في حياة الأمة، من خلال تقديم الفنان على حساب المفكر والفقيه، وهي حالة لا تقتصر على هذه الاهتمام الكبير بموت الفنان نور الشريف، في موازات الإهمال شبه التام لموت المفكر الفقيه وهبه الزحيلي. لكنها تتكرر بصورة يومية، من خلال إفراد مساحات واسعة من أوقات وصفحات وسائل الإعلام المختلفة لمتابعة تفاصيل حياة الفنانين، بمختلف مستوياتهم واختصاصاتهم، وتسليط الضوء عليهم حتى في غرف نومهم وألوان ملابسهم الداخلية، بينما لا يحظى كتاب قيم لمفكر بارز، أو إنجاز علمي لعالم مرموق، أو بحث مميز لباحث جليل ببضعة سطور، أو عدة دقائق من أوقات ومساحات هذا الإعلام، الذي يصر على دوره التدميري من خلال الكثير من ممارساته، وأولها تغيير مفهوم النموذج والقدوة وإعادة ترتيب الأولويات والاهتمامات بتقديم الراقصة والممثل، على العالم والمفكر، وهو أمر خطير لا يوازيه إلا تركيز هذا الإعلام على عوامل الفرقة والضعف بين أبناء الأمة، وتجاهل عوامل الوحدة والقوة، والأمثلة على ذلك كثيرة، آخرها طريقة تعامل هذا الإعلام مع خبر الموت شبه المتزامن للمفكر الفقيه الذي تتلمذ بين يديه على كراسي العلم آلاف الرجال والنساء، ونهل من كتبه وموسوعاته الملايين من كل الأجناس واللغات، وخبر موت الفنان الممثل، وليس آخرها استمرار تركيز هذا الإعلام على إبراز عوامل ضعف الأمة وفرقتها من خلال إبرازه وتركيزه على هذه العوامل. وإذكاء نيرانها سواء كانت مذهبية أو عرقية أو سياسية.
إن الكتابة عن طريقة التعامل مع موت الفقيه المفكر، والفنان الممثل بمقدار ما فيها من إدانة للدور التدميري للإعلام العربي، من خلال دوره في قلب مثلث القيم والمفاهيم والأولويات والاهتمامات ومصادر الثقافة خاصة تلك المتعلقة بصورة النموذج والقدوة، التي يجب أن يقتدي بها أبناء وبنات الأمة، فإن هذه الطريقة في التعامل مع خبر موت الفقيه المفكر وهبة الزحيلي، كنموذج للتعامل مع سائر العلماء والفقهاء والمفكرين، تشكل إدانة صارخة للمؤسسات الدينية الرسمية منها والأهلية على امتداد كل أرض الأمة، وحيثما تواجدت هذه المؤسسات التي أثبتت عجزها عن تقديم نفسها والتعريف برموزها، وهم مجمل علماء الأمة وفقهائها ومفكريها من خلال عجزها عن امتلاك أدوات إعلامية تستطيع الوقوف أمام هذا السير العارم من إعلام الأسفاف، وأكثر من ذلك فقد عجزت هذه المؤسسات عن التواصل المؤسسي والمنظم مع وسائل إعلام قائمة، يمكن أن تكون صديقة للعالم والفقيه والمفكر وجسراً للتعريف به ونشر أفكاره، ومن ثم تقديمه كنموذج وقدوة لأبناء وبنات الأمة.
طريقة التعامل مع خبر وفاة العلامة الفقيه وهبة الزحيلي، والفنان الممثل نور الشريف ومع تقديرنا لدور الفن الملتزم في حياة الأمم وحضارتها، ومع اعترافنا بأن الشريف قدم أعمالاً محترمة لكن طريقة التعامل مع خبر وفاة كل منهما قدمت صورة صارخة لانقلاب المفاهيم واختلال الموازين، وتراجع الفقيه والمفكر القادر على وضع الناس على الطريق الصحيح لفهم مكونات فكر وثقافة أمتهم خاصة في بُعدها الديني عن صدارة المشهد، التي صار يتقدمها أُناس كثر منهم بالإضافة إلى الفنانين، أبو بكر البغدادي ومن ماثله، وهاتان صورتان متناقضتان مختلتان تعكسان الاختلال في واقع الأمة، وهو الاختلال الذي لن يستقيم إلا عندما يأخذ العالم والفقيه والمفكر أماكنهم المناسبة في صدر المشهد، وبدون ذلك ستظلون تتساءلون عن سبب انتشار الفكر المتطرف.
الرأي