أغرب حالة ابتزاز في دنيا السياسة
ياسر زعاتره
15-08-2015 04:57 AM
من الواضح أن لا شيء يشغل أوباما في الأسابيع الأخيرة أكثر من تمرير اتفاق النووي مع إيران في الكونغرس دون الحاجة إلى اللجوء للفيتو. تبريرات الاتفاق لأجل تسويقه تعثر عليها بين ثنايا أي تصريح ذي صلة بالشرق الأوسط يطلقه أوباما، حتى لو انطوى على تناقض مع مواقف تقليدية له.
هذه ليست معركة هامشية بالنسبة إليه، فقد قاتل أعواما من أجل التوصل إلى الاتفاق، وسيكون من الكارثة أن يعجز هو الذي وقّعه إلى جانب خمس من القوى الكبرى عن إقناع أعضاء الكونغرس بأهميته وجدواه، لكن نتنياهو لا يبدو معنيا بكل ذلك، رغم الصراخ اليومي من قبل نخب صهيونية من كل الأصناف ضد سلوكه هذا، والأهم رغم كل الإغراءات التي قدمتها واشنطن له كي يكف عن هذه اللعبة الخطيرة؛ من صفقات سلاح ومساعدات، وليس انتهاء بالوعد بإطلاق الجاسوس بولارد الذي عجز كل أسلافه في المنصب عن إنجازه طوال ثلاثين سنة، مع أن أحدا منهم لم يتردد في بذل الجهد من أجل ذلك.
هي بالتأكيد أغرب حالة ابتزاز في التاريخ، فهنا زعيم أكبر قوة عالمية، يستجدي رئيس دولة صغيرة في الشرق الأوسط، تعيش على مساعدات القوى الأولى، وتعيش في الآن نفسه، وهذا هو الأهم على رعايتها السياسية الكاملة، بحيث لا يتخذ البيت الأبيض قرارا مهما فيما خصّ الشرق الأوسط من دون التشاور معها، بل من دون إذنها في كثير من الأحيان.
قديما كان يقال إن “إسرائيل” دولة وظيفية، بتعبير المفكر المعروف عبد الوهاب المسيري، وأن أمريكا هي من تستخدمها لمصالحها، لكن مياها كثيرة جرت منذ كانت هذه المقولة صحيحة، تمثلت في صعود اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وصولا إلى قدرته على تجنيد تأييد في الكونغرس يتجاوز الحزب الديمقراطي الأكثر تمثيلا للأقليات، ومنهم اليهود، نحو تجنيد غالبية في الحزب الجمهوري، لا سيما بعد أن هيمنت عليه الكنائس المعمدانية الجنوبية في عهد بوش الابن.
هكذا أصبح لرئيس الوزراء في الكيان الصهيوني حصة في الكونغرس تتفوق على حصة أي رئيس أمريكي، وصار بوسع الأول أن يفرض ما يشاء من سياسات، فيما خصّ الملف الشرق أوسطي، وتحديدا في الشق المتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي ومتعلقاته.
في الكيان الصهيوني، وكما في الولايات المتحدة، يحذر زعماء صهاينة من مغبة ما يفعله نتنياهو، ليس على العلاقة مع الحزب الديمقراطي، ولا مع أوباما وحسب، بل أيضا على الجمهور الأمريكي الذي أيد على نحو كبير جدا اتفاق النووي ورآه إنجازا، ولا تسأل عن الجمهور الغربي بشكل عام، وحيث حضرت أهم قواه في مسيرة إنجاز الاتفاق.
المصيبة التي تبرز هنا هو أن ذلك الإصرار على إنجاز الاتفاق وقبله فرض العقوبات على إيران لم يكن لأن مشروعها النووي كان يهدد الدول إياها، ومن ضمنها الولايات المتحدة، بل لأنه يخل بالتوازن الإستراتيجي في الشرق الأوسط، ذلك الذي لا يريد له الصهاينة أن يختل في غير مصلحة كيانهم الذي يمثل القوة النووية الأولى في المنطقة، وبإمكانات نووية هائلة لا أحد يبدي جدية في نزعها. وخلال السنوات الماضية، لم يكن ثمة شغل شاغل لنتنياهو في كل لقاءات وخطاباته أكثر من النووي الإيراني.
ومن هنا، كان يمكن لنتنياهو أن يعتبر الاتفاق إنجازا عمليا له، لكنه لم يفعل وواصل الطخ على أوباما باعتباره يفرط بالأمن الإسرائيلي، ويبدو أن أوباما لم يعد يتردد في مكالماته الخاصة مع أعضاء الكونغرس في الحديث عن اليهود ونفوذهم بشكل مباشر، الأمر الذي أشارت له وسائل إعلام يهودية، واستفز بعضها بالفعل.
من هنا يمكن القول إنه وبصرف النظر عن نتيجة الحشد الصهيوني ضد الاتفاق، وما إذا كان سيمر في الكونغرس أم لا، فإن الشرخ قد أخذ ينشأ بين الجمهور الأمريكي وبين الأقلية اليهودية التي تجاوزت كل الحدود في نفوذها، وهو شرخ سيتعمق بمرور الوقت وصولا إلى الصراخ ضده بشكل أوسع نطاقا. صحيح أن ذلك لن يحدث في المدى القريب، لأن أعضاء الكونغرس لا يزالون أسرى للمساعدات التي يقدمها لهم اللوبي الصهيوني، لكنه سيحدث في المدى المتوسط، وأقله البعيد.
هذه ظاهرة إنسانية طبيعية، وما من أقلية أسرفت في طغيانها، وتغولها على الغالبية إلا جاءها الرد، وهذا ما سيحدث مع الأقلية اليهودية في الولايات المتحدة في يوم من الأيام.
فاصل: يقول الكاتب الإسرائيلي عوزي برعام، في مقال له بصحيفة هآرتس (10/8): “رئيس الحكومة ومؤيدوه يزعمون أنهم لا يريدون التدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة، وأن الواقع السياسي يفرض شروط المعركة، لكن الحقيقة ليست كذلك. فالحرب التي يشرف عليها نتنياهو من أجل نقل منتخبين ديمقراطيين إلى صفوف معارضي الاتفاق خطيرة جدا. وهذا تدخل أكثر فظاظة من تدخله لصالح ميت رومني في المنافسة على الرئاسة. والأخطر من كل ذلك هو تدخل نتنياهو لتجنيد يهود الولايات المتحدة ضد الرئيس. هذه التجربة المباشرة والخطيرة تضر بالمصلحة الإسرائيلية واليهودية على المدى البعيد، لاثبات أن يهود الولايات المتحدة يتصرفون كمواطنين مخلصين، وليس كرعايا لدولة أخرى تربطهم بها علاقة عرقية (دينية في واقع الحال)”.
الدستور