جدالات "ميتافيزيقية" في مدينة ريفيّة
هشام غانم
15-05-2008 03:00 AM
المراقب، (على معنى الساعي في التعليل) لِما يدور في البلد، هذه الأيّام، وقبلها وربّما بعدها، قد لا يحار جواباً عن أسئلة الحوادث التي جرت وتجري، ابتداءً مِنْ نيسان (إبريل) وحتّى أيّار (مايو)، 2008. وهي ثلاثة حوادث بارزة ومتناثرة. أوّلها كان انتخابات "نقابة الصحفيّين". وثانيها انتخاب أحد "صقور" (على ما يقال في وسائل الإعلام) جماعة "الإخوان المسلمين" مراقباً عامّاً. وأمّا ثالثها فهو الجلبة التي دارت وتدور حول السيّد باسم عوض الله، وما تلا ذلك مِنْ استدراك إحدى النائبات على الجلبة إيّاها. والحوادث هذه، قد تبدو أصواتاً متنافرة لا ينتظمها نغمٌ جامع. ولكنّ خيطاً رفيعاً يشدّها ويجمعها ويربطها بعضها ببعض. والخيط هذا، على الأرجح، هو خيط الثقافة الريفيّة التي تكاد تلتهم المدينة.
فالشجار الذي نشب في أثناء انتخابات "نقابة الصحفيّين"، هو نقض على الكلمات (المعاني) الثلاثـ(ة) الأخيرة، والنقض هذا، قد لا يعبِّر عنه سوى الريف؛ فالانتخابات تفترض احتكاماً إلى أصول وأعراف، تنشأ، حصراً، في المدينة، وتردّ إلى إرادات أفراد ناجزين وأحرار، يمتلكون قراراتهم ويسعون في فرديّة تعزّز القرارات هذه، وهذا كلّه هو ما يفتقر إليه الريف، بل ويرفضه. أمّا المعنى الثاني (أي النقابة)، فهي نشأت في المجتمعات الأوروبيّة غداة الثورة الصناعيّة، وهي نتاج تأطيرٍ وتنظيمٍ رأسماليّ، متعالٍ على رابطة النسب والدم و"الأخوّة".
وإذا كانت النقابة، في مبدأ أمرها، انقلاباً على "القانون"، أي قانون "العرض والطلب" (الآلة)؛ إلا أنّها، أمست، في نهاية مطافها، قانوناً أكثر تماسكاً مِنَ القانون ذاته. وهذا، أيضاً، هو ممّا يعوزه الريف وينبذه.
وأمّا المعنى الثالث (الصحافة)، فهو، في أبسط تعريفاته، إشهار وجهر وعلانية، وهذه كلّها قد تكون تعريفاً للريف، ولكنْ مِنْ طريق النفي أو السلب، أي تعريف الشيء بنقيضه؛ فالريف هو ما لا ينوجد فيه إشهار وجهر وعلانية، بل كتمان وتستّر وخفر.
وتجلّى الحادث "الريفيّ" الثاني في فوز أحد "صقور" الإخوان، ولكنّ المقالات التي تعقّبت هذا الحادث كانت أعمق دلالةً ريفيّةً مِنَ الفوز نفسه. فالمقالات هذه، كان مدارها على تنازع تيّارات "الجماعة" بعضها بين بعض، وعلى صوابيّة رؤية كلّ واحد منها، وأخيراً وليس آخراً، على جدارة الفائز بتمثيل فئات المجتمع. فاستتر على أهل المقالات ما يكنّي عنه اشتداد عود "الجماعة" وقوّة شوكتها وصعود "صقورها". وغفلت "النخبة" الثقافيّة عمّا يعنيه هذا الصعود في مطالع الألفيّة الثالثة. وهو تنصيب المشايخ والمخاتير مراجعَ وأهلَ حلٍّ وعقد في منازعاتِ وشؤون الأولى والآخرة، المركّبة والمعقّدة، التي يزعمون السعي فيها مِنْ طريق نِصابٍ متعالٍ ومفارقٍ وظاعن، عوض السنن الأرضيّة المرنة والمجرّبة. هذا على رغم القرائن المتكاثرة، الآن والأمس، التي تثبت خطر تستّر السياسة بالدِّين، وتوسّل الثاني بموارد الأولى.
ولا يشذّ الحادث الثالث (أي الجلبة حول د. باسم عوض الله) عن الحادثيْن السالفيْن. ولا يحتاج الأمر عيناً ذات بصر حديد لكشف القناع عن شخصنة التهم الموجّهة لعوض الله، مِنْ وجه، وعلى تهافت مزاعم المندّدين به، مِنْ وجه آخر. فهم رأوا في ما يرى النائم (على ما كان طه حسين يؤثر أنْ يصف الحالم)، أنّ عوض الله باع أراضي وأصولاً عقاريّة (وبعضهم يسترسل ويقول إنّه يسعى في بيع "البلد"). والتشبيه بإيلي كوهين تحت قبّة البرلمان، في معرض لقاءٍ مع رئيس الوزراء (وهو معرض قانونيّ وتشريعيّ)، جرى (أي التشبيهُ) على مثالٍ حربيّ واستخباراتيّ. وهذه قرينة قويّة على انحراف البرلمان عن مساره الحقيقيّ. وهم يحسَبون أنّ الصنيع هذا، في وسعه قلبَ الحقائق. وفوق هذا وذاك، فهم ينكرون على رئيس الديوان الملكيّ نشأته وتربيته "الأميركيتيْن. والنكران هذا يُحيل إلى الأصل والفصل. وهذان، يغرفان مِنْ معين عربيّ عتيق وعميق.
فيروي الأصفهاني، (صاحب \"الأغاني\")، واقعةَ لقاء هارون الرشيد أعرابيّاً يتهيّأ بهيئة متخفية، فإذ يسأل الأوّلُ الثاني: \"مَنْ أنت\"، يتلعثم الثاني، وإذ بالسائل يرتدّ مسؤولاً، فيسأل الأعرابيّ: \"ما القصد الذي تقصد إليه؟\"، فيردّ الخليفة العبّاسيّ: \"انتسبْ\"؛ (أي أعلنْ نفسَك واجهر بها)، فمَنْ أنت، أي ابن مَنْ، ومِنْ أيّ عائلة. وبحسب \"المنطق\" هذا، يكفّ التعريف عن أنْ يكون انتساباً معطىً، فينقلب المرء جزءاً مِنْ كلٍّ؛ فتمتنع علاقاته وأعماله ومصالحه ومكان عمله ومؤسّسته مِنْ أنْ تكون محور تعريفه نفسَه. فكيف حصل كلّ ذلك؟
على رغم أنّ العاصمة عمّان مدينة إلا أنّ هذا لم يقتضِ نشوءَ علاقات ومصالح ومراتب وسلالم اجتماعيّة ومراكز مدينيّة (ربّما حدث ذلك ولكنْ على نحو شديد التواضع). وحدث ذلك أم لم يحدث، لم تلبث العاصمة أنْ استحالت ريفاً في صيغة مدينة. فإذ بالأهالي ينزعون إلى بعث الحيّ في ثنايا المدينة. فكانوا يستقبلون الوافدين الجدد، مِنَ الأقارب، كما يليق بالضيف أنْ يُستقبَل، وينزلونه على الرحب والسعة، وكانوا وما زالوا يقيمون على مقربة مِنْ أبناء العمومة والخؤولة، ويحرصون على مؤونة الريف و"البلاد"، وحتّى أماكن العمل (الرأسماليّ) التي يُفترَض أنْ تفكّك عرى القرابة كانت ولا تزال نهباً للقرابة والوساطة والجيرة؛ فنجم عن هذا أبراج ومبانٍ إسمنتيّة، ومدن مِنْ غير مدنيّين، ومجالس وزراء و"نوّاب" مِنْ غير سياسة. وهذه كلّها أفضت إلى اجتماع مِنْ غير مجتمع. ولا عجب، فنداء الشيح والقيصوم والملوخية لا يذوي ولا يذبل، شأن السلاح؛ زينة الرجال.
hisham@3c.com.sa
الغد.