ذكرتني مظاهرات العراق المطلبية، والتي تركز على قضية انقطاع الكهرباء، وتفاعل المسؤولين الحكوميين السابقين والحاليين معها، وتأييدهم لها، بتلك القصة الشهيرة التي عنوانها “كلكم يبكي، فمن سرق المصحف”.
يروى أن العالم الزاهد مالك بن دينار كان في مجلسه يعظ أناسا ويفسر لهم القرآن الكريم، وقد ظهر الخشوع عليهم لدرجة البكاء. في الأثناء تفقد الشيخ مصحفه الذي كان يضعه دائما إلى جانبه فلم يجده، فسأل الموجودين عن المصحف فلم يجيبوه واستمروا في بكائهم، وكلما سألهم ازدادوا بكاء، فقال كلمته الشهيرة: “ويحكم؛ كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟!”.
الآن، وفي العراق، يبدو أن قصة مالك بن دينار تتكرر هناك أيضا، نتابع بكاء المسؤولين قاطبة، السابقون منهم والحاليون، فلا يجد المواطن غير السؤال: “ كلكم يبكي، فمن سرق أموال البلد؟!”.
أليس مثيرا للسخرية، وللقهر في آن، أن نسمع نوري المالكي يطالب العبادي “بالضرب بيد من حديد على أيدي الفاسدين”، في ذات الوقت الذي يؤيد فيه دعوات “المرجعية” لتسوية الأمور، ثم يعلن بعد ذلك تأييد إجراءات العبادي التي أعلن عنها، ومن ضمنها فتح ملفات الفساد السابقة؟!
نوري المالكي هو رئيس الحكومة السابقة، وهو إلى جانب كونه أسوأ الطائفيين في تاريخ العراق؛ هو أسوأ الفاسدين أيضا، ليس بشهادتنا نحن المتهمين بالطائفية (تلك تهمة تعودنا عليها)، بل بشهادة رموز من ذات الفئة، ليس أشهرهم مقتدى الصدر الذي اتهمه مرارا بسرقة المليارات، وغيره كثير، بل بآخرهم، وهو نائب العبادي المقال (بهاء الأعرجي) الذي قال قبل أيام ما نصه: “لقد أهدرت الحكومة السابقة نحو تريليون دولار، وهي عبارة عن 800 مليار دولار موازنات العراق النفطية منذ عام 2004 وحتى 2014، بالإضافة إلى نحو 200 مليار دولار منحا ومساعدات”، “لا توجد حسابات ختامية حتى نعرف كيف أنفقت ولا يوجد إنجاز على الأرض حتى نتلمس تلك الأموال من خلال مشاريع ومنجزات”. وهو ما رد عليه أزلام المالكي في النظام الحاكم، بفتح ملفات فساد للرجل، وهو من التيار الصدري.
جريمة المالكي برأينا لا تتوقف عند حدود ما نهبه وحواريوه من أموال العراق، ولا ما أهدره بسوء إدارته، بل تتجاوزها إلى النار التي ألقى فيها العراق وأهله بطائفيته المقيتة، والتي أشعلت حربا تضيع ثرواته، بل ترهنها لعقود مقابل صفقات سلاح مع روسيا وأمريكا وسواهما، ولا تسأل عن تسببه بتدمير ذي كلفة باهظة، وبقتل وتشريد مئات الآلاف من العراقيين تبعا لذلك.
مفارقة أخرى تستحق التوقف في قصة المظاهرات التي نحن بصددها، فهذا الحنان على المتظاهرين لم يأت إلا لأن غالبيتهم من المواطنين الشيعة، والذين لا يجرؤ القوم على مواجهتهم بالقمع مثلما فعل المالكي بالمعتصمين السلميين في الأنبار وغيرها.
المفارقة الأخرى هي دور ما يسمى المرجعية في القصة، والتي تستخدم في وصف المرجع الشيعي علي السيستاني، وهي مفارقة بالغة الغرابة، إذ طالبت بالتعامل مع المتظاهرين بهدوء وتلبية مطالبهم، وهو ما رد عليه العبادي على الفور بالامتثال، والوعد بتنفيذ وصايا المرجعية.
كأننا إزاء دولة دينية، يأمر فيها “الولي الفقيه” فيطاع، لكنها طاعة بائسة، فكم مرة خلال السنوات الماضية طالبت فيها المرجعية بتحسين شروط حياة المواطن دون جدوى، كأنما هي تعظ وتخلي نفسها من المسؤولية لا أكثر، مع الاحتفاظ بقدسيتها!!
تقول أحيانا إنها لا تتدخل في السياسة، لكنها تعود للتدخل، ولا تظهر لها مواقف إيجابية في وقف طوفان الفساد، لا في الحكومة السابقة ولا الحالية. كل ما في الأمر أنها تذكر بأن العراق دولة شيعية، وليست دولة ديمقراطية يحكمها القانون والمؤسسات والدستور.
من المؤكد أننا إزاء حراك شعبي بالغ الأهمية، لأنه الاعتراف الأوضح من قبل الشارع الشعبي الشيعي بأن من ركبوا ظهره (وركبوا دبابة المحتل أيضا)، وغالبيتهم من الشيعة كانوا فاسدين.
نأتي إلى قرارات العبادي الأخيرة التي أقرها البرلمان، والتي لا يمكن النظر إليها بعيدا عن استغلال الظرف من أجل تحجيم إرث المالكي. وكان العبادي ذهب في هذا الاتجاه في البداية، لكنه فشل، وها هو يعاود الكرة من جديد بدعم التيار الصدري وآخرين، لكن الحكم على خطواته يبقى مبكرا في ظل إصرار طهران على التحكم بالوضع من الداخل.
الذي لا شك فيه هو أن العراق سيبقى في بؤسه المقيم في ظل هذه المنظومة البائسة، وحيث تتحكم به مليشيات طائفية منفلتة، هي في الأساس عنوان القمع والانتهاكات والفساد، وهذه يحركها قاسم سليماني، بينما تطالب “المرجعية” بتقديم مزيد من الدعم لها من أموال الشعب، فهل من حل غير يمكن أن يلوح في الأفق قبل تحرير البلد من الاحتلال الإيراني، يليه تسوية تجعله لكل أبنائه دون طائفية ولا إقصاء؟!
الدستور