رزئت أمتنا يوم الاحد الماضي بفقدان علم عالم وفقيه هو بقية طبقة من فقهائها، في زمن قل فيه العلماء، وندر فيه الفقهاء، هو فقيه بلاد الشام وهبة الزحيلي، الذي تتضاعف خسارتنا برحيله في توقيت هذا الرحيل، الذي تشتد حاجتنا فيه الى امثاله.
يحار المرء عندما يفكر بالكتابة عن وهبة الزحيلي، ومن اين يبدأ؟ هل يبدأ من ألمعيته وذكائه، الذي أهله لدراسة الشريعة واللغة العربية والقانون في وقت واحد، ليتخرج منها جميعا بدرجة الامتياز، فالتفوق احد اهم مفاتيح هذه الشخصية، وهو مفتاح يقود الى اخر من مفاتيحها، هو مفتاح الكبرياء المتوج بالتواضع، وهذه من أهم صفات العالم المفطور، الذي يحترم علمه من خلال إحترامه لذاته بكبرياء بدون كبر. فكل من عرف وهبة الزحيلي وتعامل معه لابد أنه لمس هذا المكون البارز من مكونات شخصيته، الذي لا يدانيه مكون آخر الا غزارة علمه، فقد كان رحمه الله عالمًا واسع العلم، موسوعي المعرفة، زادت مؤلفاته عن الخمسة وسبعين كتابًا، غير الموسوعات والبحوث العلمية واوراق العمل المقدمة للمؤتمرات والندوات. كما كان محققًا فذًا لا تجاري تحقيقاته الا كتبه الجامعية، التي تتلمذ عليها طلابه في شتى بقاع الارض، وبلغات مختلفة، هذا عدا عن المراجع العلمية التي الفها وصارت مرجعا لكل باحث وعالم، تماما مثلما صارت كتبه الفكرية معينًا لا ينضب للباحثين والمفكرين، وكلها تزيد من رسوخ قدمه في ميادين العلم. فلو كانت موسوعته الموسومة بـ (موسوعة الفقة الاسلامي والقضايا المعاصرة) والواقعة في اربعة عشر مجلدًا وحدها في ميزان علمه لكفاه ذلك، فكيف ومعها موسوعة «الفقه الإسلامي وادلته» في احد عشر جزءًا، وشقيقتها (موسوعة الفقة الاسلامي المعاصر) في ثمانية أجزاء، والتي تشكل بمجموعها كنزًا ثمينًا في المكتبة العالمية، ذلك إن جل كتبه تمت ترجمتها الى الكثير من لغات العالم، ودُرست في جامعاته ومعاهده العلمية بالاضافة الى تدارسها في مجالس العلم والذكر.
وعند مجالس العلم نتوقف، لنشير الى وهبة الزحيلي المعلم، الذي ينتشر طلابه وتلاميذه في كل اصقاع الارض، ومنهم من صار عالمًا يشار اليه بالبنان، لكنه يظل يفتخر بانه من تلاميذ وهبة الزحيلي، الذي كانت جامعة دمشق مربط خيله، الذي يعود اليه كلما تركه ليكون استاذًا زائرًأ او معارًا لهذه الجامعة، او تلك من الجامعات التي كانت تتنافس لتنل شرف ضمه عامًا او أعوامًا لهيئتها التدريسية، لما يعطيه ذلك لها من ثقل علمي.
ومثل الجامعات كانت المجامع على اختلاف تصنيفاتها، فقد كان وهبة الزحيلي فارس المجامع الفقهية عضوًا خبيرًا في اهمها، مثلما كان عضوا في الكثير من المجامع والاكاديميات العلمية والفكرية، كالمجمع الملكي لبحوث الحضارة الاسلامية (مؤسسة آل البيت).
وعند الفقه والفقهاء نتوقف لنتحدث عن الفتوى، التي صارت ملعبًا مستباحًا سامة كل مفلس، دون التقيد بقواعد الافتاء وشروطه، وهي القواعد والشروط التي طالما ذكر بها الراحل وهبة الزحيلي، ومما قاله عليه رحمات الله: (تورطت القنوات الفضائية في توجيه اسئلة شرعية لبضع المنتمين للعلوم الشرعية، دون توافر المؤهلات المطلوبة شرعا، فوقعوا في اخطاء، وتورطوا في تقديم فتاوى شاذة او الاعتماد على آراء ضعيفة، أو تأثر بثقافة غير اسلامية، مما اوقع السامعين في حيرة، حيث تضاربت الفتاوى، وبعدت عن أصول الشريعة وهدى الإسلام، وضوابط الفتوى، ومقتضيات الورع، ورقابة الله عز وجل، بحجة التيسير والتسهيل على الناس، وذلك اقرب للتفلت من احكام الشريعة المقررة لدى جماهير اهل العلم الثقات، والأئمة المجتهدين، واجماع العلماء في كل عصر وزمان، حتى ان بعض آراء هؤلاء الأدعياء اقرب الى السخف والسذاجة، كما ان الواضح منها ان مُصدري هذه الفتاوى ما زالوا مجرد طلاب علم، او مبتدئة في تلقي العلوم، علما بأن المبدأ الشرعي المنقول في السنة النبوية (أجرؤكم على الفتيا اجرؤكم على النار) الى ان يقول رحمه الله: (نصيحتي الدائمة منذ بدء تدريسي في الجامعة الا يبادر طالب العلم للافتاء الا بعد النضج العلمي، ومظنته بعد سن الاربعين لكل انسان).
إن مما يزيد من عظمة المصاب برحيل وهبة الزحيلي، موقفه الحاسم من قضية التكفير، التي صارت شغل الناس الشاغل في هذه السنوات العجاف، التي ازدحمت بفتوى الجهل والجهلاء، الذين صار الفتى الغر منهم لا يتورع عن اخراج الناس من دينهم وملتهم، بينما العالم الفقيه مثل الدكتور وهبة الزحيلي يتحوط في اصدار فتاويه ويحذر من آفة التكفير بل يفتي بأنه (لا يجوز تكفير دولة لأن الدولة شخص معنوي). ويعلن (انه لا يحق لأحد اعلان تكفير مسلم الا برؤيته الكفر الصراح منه. او باعلان قاض عدل ثقة امين في دينه وعلمه) ويقول: (لا يقبل من احد قوله إن فلانا كافر او زنديق او مرتد حتى يقدم الدليل الواضح على كفره، اما مجرد مخالفته غيره في الرأي الذي لا يصادم اجماع الامة فلا يعد كفر) الى ان يقول: (واذا لم يظهر الكفر صراحة يترك الامر الى الله عز وجل عالم الغيب والشهادة المطلع على ما في القلوب)، فأين ممارسات تنظيمات التكفير من أحكام الشرع الحنيف على حقيقتها وضوابطها كما وضعها الفقهاء الثقات امثال الدكتور الزحيلي، الذي رحل في عصر «فتنة» صار فيه التكفير تهمة سهلة تلصق بكل مخالف للرأي.
لقد رحل وهبة الزحيلي في زمن «أمتنا» اشد ما تكون فيه حاجة الى امثاله، لاخراجها مما هي فيه، مما يجعل من رحيله في هذا الوقت خسارة مضاعفة، رحمه الله رحمة واسعة.
الرأي