هذه الصرخة ليست مني، فأنا أوقن أن العرب العاربة والمستعربة، الذين تصالحوا مع مستدمرة إسرائيل حتى قبل تأسيسها، لا يولون مثل هذه الصرخات أدنى اهتمام، وقد أرسل الأمير فيصل رسالة إلى القاضي الأمريكي اليهودي فيليكس فرانكفورتر عام 1919 رسالة جاء فيها "نحن العرب وخاصة المثقفين بيننا، ننظر بعين التعاطف العميق مع الحركة الصهيوينة، وسوف يلقى اليهود ترحيبا حارا في بيتهم، فالحركة اليهودية هي حركة قومية وليست حركة إستعمارية"؟!
هذه الصرخة المدوية، جاءت من دبلوماسي آسيوي خلال زيارتي له قبل أيام، وسؤاله عن أحواله فصرخ في وجهي: أنا معذوب والله أنا معذوب "أي معذب " من العرب، لأنهم لا يحترمون مواعيدهم، وعندما يأتون متأخرين لا يعتذرون، بل يشعرونك أنك أنت المقصر وليسوا هم...
هكذا كانت الصرخة، عتابا حادا ممزوجا بالألم، إذ أنني لم أعهده هكذا، وكان يحتفل بي عندما أزوره مرة في العام، ويشعرني أنني أنا المضيف وهو الضيف، لكنه هذه المرة إستشاط غضباً، وكشف الطابق المستور وقال: "الحمد لله أنني بلغت الستين هذا العام وسأتقاعد وأرتاح من عذاب العرب؟!
حاولت تهدئته والتخفيف عنه، فأنا لست بحاجة لمن يوقد النار في حطبي المشتعل أصلاً، ولكنه واصل، وكان أحيانا يتحدث مع نفسه، وأقسم بالله أن العرب يحرجون الدبلوماسيين مع عواصمهم ومع المسؤولين عندما يزورون الدول العربية.
قال الصارخ المعاتب أن فرقة فنية كبيرة جاءت من بلاده للإشتراك في مهرجان جرش الفني، وكم عانى أركان السفارة المعنيون من الإحراج، لأن القائمين على المهرجان لم يوفروا حافلة لنقل الفرقة إلى مسرح الإحتفالات بجرش، كما أنه أكد أن الحرج يتواصل عندما يزور مسؤول دولة عربية، ويكون قد أخذ صورة شاملة عما تم إنجازه من إتفاقات وتفاهمات مع المسؤولين في هذه الدولة أو تلك، عندما يجد أن المسؤولين العرب غير معنيين بما تم الإتفاق عليه.
فجأة ضرب مضيفي المحتج تحت الحزام فأوجع، عندما قال :أنتم العرب خضتم أربع حروب مع إسرائيل الصغيرة، وأنتم كثيرون لكنكم فشلتم في هذه الحروب، وكانت إسرائيل تنتصر عليكم وتحتل أراضيكم .. ودون أن يسمح لي بالكلام ردا على مقولة الحروب، قال لي: أرجوك لا تبرر ولا تقل أن أمريكا تدعم إسرائيل، فأنتم أيضا كانت الصين والاتحاد السوفييتي السابق يدعمانكم، ومع ذلك لم تسجلوا ولو نصرا واحدا على إسرائيل ...إن المشكلة فيكم وليس في الآخرين.
لم يوقف مضيفي الغاضب قصفه المدفعي، وقال بإندفاع أن زميلا له يعمل في سفارة بلاده في القاهرة كان يستغرب من سرعة المصريين وهم يقودون سياراتهم في الشوارع وبطء عملهم وأدائهم أثناء العمل، وخرج بنتيجة بعد أن قام بدراسة معمقة لهذه الحالة أن المصريين يخرجون من بيوتهم متأخرين مما يضطرهم للسرعة بسياراتهم في الشوارع، حتى لا يصلوا متأخرين إلى مقار عملهم.
فشلت كل محاولاتي الرامية لتهدئة مضيفي، لكنني فشلت، وقال: تعاملت مع اليهوديين "الإسرائيليين" وكانوا قمة في الإلتزام والحذروالحرص عند الحديث أو التعامل مع الآخر، وأنهم كانوا يخططون لكل شيء، ولذلك ينجحون في التعامل مع الآخر، عكس العرب الذين لا يحترمون أحدا.
صمت مضيفي قليلا من تلقاء نفسه وقال بكل الفخر : عندما تخرجت من الجامعة قبل أربعين عاما وعملت في وزارة الخارجية، طلب مني المسؤولون أن اكون ملتزما هادئا في تصرفاتي مواظبا في عملي، لأن كل تصرف مهما كان بسيطا سينعكس إن سلبا أو إيجابا على وزارة الخارجية وعلى بلده وعليه شخصيا... وقالوا لي : منذ الآن يجب أن تعد عليك خطواتك وتراقب تصرفاتك وأن تكون حريصا قبل النطق بالكلام.
شعرت بالحرج أكثر عندما قال متألما: الثقافة العربية فيها خلل، لأن أفعال العرب ليست بسبب حكامهم، بل بسبب ثقافتهم، علما أن اللسان العربي مسموع ومفهوم في العالم أجمع، لكن ما الذي يحدث عندكم يا عرب؟
لم أحاول التبرير لأنني أومن أنه على صواب، بل إكتفيت بإجترار ألمي، وخاصة عندما قال : العرب لا يصلحون إلا للصداقة والترحيب والكرم، فهم عندما يلتقونك يقبلونك ويصافحونك بحرارة، لكن العمل معهم مصيبة.
أعلم أن معاناته كبيرة،وأن معه الحق في كل ما قاله، وهو محق بإختيار الطريقة التي عبر فيها عن معاناته، ولكنني كأي عربي لا أتحمل أحدا أن يكاشفني بعيوبي.