في إحدى الدول الأوروبية صدر قانون يعاقب العاملين في المجال الطبي، من أطباء وصيادلة وغيرهم بالسجن لمدة ثلاث سنوات في حال تقاضوا مبالغ مالية، أو استلموا هدايا أو عينات مجانية مقابل دراسات علمية واعتبروها بمثابة الرشوة، بل ان القانون الجديد يمنع أيضاً شركات الدواء والمعدات الطبية، من تقديم أية عينات دعائية من أقلام أو كراسات للأطباء باستثناء أوقات الدورات العلمية، وجاء هذا القانون بعد نشر دراسة أدت الى خسائر هائلة تكبدتها شركات التأمين الصحي، بسبب صدور دراسات علمية منحت بعض الأدوية غالية الثمن إيجابيات على صالح أدوية رخيصة الثمن، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف العلاج.
عند قراءتي لهذا الخبر التمست مدى الشفافية التي يتحلى بها زملائي في أوروبا، وتبادر إلى ذهني مئات الأمثلة والتجاوزات التي تحدث في بلدنا وبشكل يومي، والتي يقوم بها أطباء ومؤسسات صحية وعاملون في المجال الطبي، بل ويوجد أيضاً تجاوزات يتسبب المريض نفسه في نشوئها.
فأنا شخصياً ومنذ عشرين عاماً لم أقم بالمشاركة في أي مؤتمر طبي على نفقة أي شركة دواء أو موردين للمواد الطبية، فنرى للأسف شركات أدوية عديدة تقوم بتمويل نشاطات للأطباء والعاملين في المجال الطبي بدعوى أنها مؤتمرات علمية، ولكن الهدف منها شراء ذمم هؤلاء الناس، فيتم دعوتهم إلى فنادق راقية، وتذاكر سفر مجانية بالدرجة الأولى، بمشاركة أفراد العائلة أحيانا، وتقديم الهدايا وما شابه، بل و هناك ظاهرة متفشية في الأردن تتمثل في قيام هذه الشركات ببيع الطبيب معدات تزرع في داخل الجسم (Implants) بحيث يقوم بدوره ببيعها للمريض، طبعا بإضافة أرباح خيالية لجيبه الخاص.
وهنالك طرق مختلفة تتمثل (بالسمسرة) على المرضى الأجانب من قبل سائقي التاكسي، وحتى من قبل بعض الأطباء ممن يتقاضون أجور مقابل قيامهم بتحويل مرضى إلى مراكز أشعة أو علاج طبيعي أو مختبرات معينة بناءً على اتفاق مسبق معها. كما وتفشت أيضاً ظاهرة الباكيجات (Packages) وهي عبارة عن خدعة يستخدمها بعض الأطباء لجلب أكبر أرباح ممكنة من المريض، بل ويتم خداع المستشفيات بها، بحيث يقوم الطبيب بتسديد فاتورة المستشفى، ومحاسبة المريض في عيادته، وهذا الأمر مخالف للقوانين الأردنية وللأعراف والتقاليد وأخلاقيات المهن الطبية، وهدفها واضح وجلي وهو استغلال المريض والمستشفى.
بل وهناك أمور أخرى كرفع فواتير الأطباء والمستشفيات بشكل مخالف للقوانين المعمول بها في الأردن وخاصة للمرضى الوافدين، الأمر الذي سيكون له تبعات سلبية على السياحة العلاجية ومصداقية الطب في بلدنا. أما من ناحية اخرى فقد أصبحت ظاهرة الخصومات على أتعاب الأطباء والمستشفيات من الأمور المتداولة بشكل يومي، وكأن المستشفى بازار لشراء المواد الغذائية، فالمريض ليس سيارة تقوم بتصليحها ونعرف مسبقاً القطع التي يجب تبديلها وبالتالي يتم معرفة تكاليف التصليح مقدماً، فالعمليات الجراحية أمور معقدة، وقد يحدث أثنائها مفاجئات، مما لا يفسح المجال لا للأطباء ولا للمستشفيات من تحديد كلفة العلاج بشكل دقيق، فمسألة الخصومات لها دواعي سلبية على نوعية العلاج ونتائجه وعلى الخدمات المقدمة للمريض، وهناك ظاهرة جديدة لابتزاز المستشفيات والأطباء عبر التلويح بنشر أمور لا تمت للحقيقة بصلة في الصحافة الابتزازية وخاصة الإلكترونية من أجل إلغاء الفاتورة أو الحصول على خصم كبير. فنحن بلد يتمتع بسمعة جيدة في المجال الطبي، ولدينا نخبة من الأطباء الذين شقوا طريق علمي متطور، واسمائهم لامعة في معظم دول العالم، بل و نعتبر من الدول المتقدمة جداً في مجال الخدمات الصحية، وللمحافظة على هذه الإنجازات يتوجب على وزارة الصحة ومؤسسات المجتمع المدني أخذ هذه الأمور بجدية وصرامة في التعامل مع القلة التي تسيء لسمعة الطب بشكل عام وذلك من خلال إنشاء لجنة للنزاهة تقوم بدورها في التحقيق بهذه التجاوزات وتضع عقوبات رادعة لهذه الفئة.