كانت تعجبني بساطة الساهرين.. عشوائيتهم، نزقهم، شوقهم الذي يشرعون له النوافذ، أدواتهم المحدودة في التعبير كطفل في عامه الأول، خصوصياتهم المنشورة على سطوح البيوت وقرب الخزّانات .. كانت تعجبني هذه الفوضى الشهية في ليالي الصيف .. منذ أن بدأت تترتّب التعابير طبقات طبقات حسب الأهمية كما ترتب خزانة الملابس، فقد الليل سحره..أصبح الليل مثل غجرية تأكل بالشوكة والسكين...المنغلقون على «هواتفهم» و"حواسيبهم" أفسدوا قدسية السهرة ، العشاق الذين اختصروا «زفير» الشوق المرسوم بقلب من طبشور على جدران البيوت إلى قلب اليكتروني في «الواتساب»..افسدوا شجاعة اللهفة، تماماً كمن يضع «بكلة» في شعر أسد..
**
الساهر كائن ثائر.. لا يخضع لعمليات ترويض الحداثة...علامات ترقيم الليل، ابريق شاي بين القضبان على السطح ..حبل غسيل كسطر مائل في صفحة العتمة، دفتر رسائل مزركش ... أشرطة كثيرة، ووردة تغني تارة «ما عندكش فكرة» وتارة أخرى « في يوم وليلة»..جيران يتفقدون الخزان...و آخرون «يسلّكون» بربيش الماتور...»سدر من البطيخ» على الحاووز الأرضي.. والشباح المثقوب يدخل هواء طرياً فوق السرّة... لا يمكن ان تفهم نَصّ الليل الا اذا وضعت «علامات ترقيمه» في مكانها.. سيارات تزمّر في الشارع الخلفي: «عرس متأخّر»...وديك يصيح عند الحادية عشرة : «آذان مبكّر»...سيارة إسعاف تلون شواحتها حيطان البيوت وشابان يجلسان فوق رأس المريض ربما «جلطة خفيفة» سنراه بعد يومين بعكاز وكرسي في المسجد... بكاء رضيع متقطّع: انقطاع «الحبل السري» في عالم مفضوح كهذا، مؤلم ومعقّد كمن يكتب رسالة بالحبر السري لحبيبة لا تقرأ... بكاء متواصل لطفل آخر: «بيطلع طواحين»؟... وصوت خفيف لعجَل العَرَبة بين يدي عامل وطن بدأت مناوبته في تكنيس السهر عن رموش الشوارع.. أسلاك كثيرة ومتشابكة لا نعرف وظيفتها ، ثم لم هذا الكم من الأسلاك لبيوت العلاقات مقطوعة فيما بينها أصلاً؟.. صحون لاقطة تشبه الأزرار في معطف الليل لامعة ومدورة، الدوالي المائلة تُرضع الفراغ من عناقيد العنب خمس رضعات مشبعات ...
على «الفرشة» المهملة على السطح يمسي الساهر مثل البسط في الكسر العشري لا هو يؤول الى الواحد ولا يتلاشى حتى الصفر .. على السطح يتذكر الساهر كيف وعدته حبيبته ان تنتظره العمر كله فور سماعها "الحب كله»...
ويتذكر أيضاَ كيف نسيت «الحب كله» قبل ان يصفق الجمهور لكوكب الشرق في نهاية الأغنية...
على السطح تتعرق أسطح البيوت بذكرياتها، شوق وعشق وموت وسفر وغياب.. تمسح بـ"قنديل" الياسمين المعطر نوافذها ، ثم تطلق زفيراً فوق العادة .. !!..
الرأي