يُحكى أن جماعة ألزمت أعضاءها بقواعد سلوك معيارية، وطقوس صارمة؛ وعمل قادتها وزعماؤها على مراقبة تقيد الجميع بهذه القواعد واحترامهم لها في كل الأوقات، باستثناء بضع دقائق في كل أسبوع؛ بحيث يترك لكل من الأعضاء أن يفعل ما يشاء، من دون خوف من عقاب ومساءلة. وكانت الجماعة المتشددة في طقوسها وتقاليدها، تُعلن عن انتهاء الفسحة التي يتحرر فيها الأعضاء من واجباتهم، من خلال الضرب بعصا على إناء معدني اسمه "الطاسة"، فيعرف الجميع أن زمن التسيب انتهى، وبدأ زمن الجد والالتزام.
وتقول الحكاية إن غالبية أعضاء الجماعة ملوا المعايير والطقوس، وطاب لهم اللهو، فقرروا أن يسرقوا الطاسة ويخفوها، لكي يستغرقوا في فسحة لا نهاية لها، مبتعدين عن قواعد السلوك، فيعمل كل واحد منهم ما يحلو له. وقد فعلوا؛ إذ "ضاعت الطاسة"، ولم يعد هناك من إناء يطرق عليه لإعلان ضرورة العودة إلى العمل المعياري الجاد. وقد أصبحت هذه الحكاية مثلا يستخدمه الناس كلما افتقدوا لمن يجيبهم بإجابة شافية، أو تاهوا في البحث عمن يحل مشكلاتهم.
أسوق هذا المثل، وأنا استمع لملاحظات الكثير من الأصدقاء عن كيفية تعامل بعض مؤسساتنا مع مشكلات تواجههم. فكلما راجعوا واحدة منها، أجابتهم بأن ذلك ليس من اختصاصها. وعلى سبيل المثال وليس الحصر:
أولا: مسؤول حكومي سابق لاحظ وجود عشرات الخيم التي نصبها مجموعة من الغجر في محيط بيته على شارع المدينة الطبية. فاتصل بأمانة العاصمة التي أجابت أن ذلك ليس من مسؤوليتها. فحادث محافظة العاصمة وغيرها وغيرها، ولا أحد يملك الإجابة عن كيف يمكن التعامل مع هذه الظاهرة. وما تزال "الخرابيش" في مكانها.
ثانيا: على طول شارع الأردن وشارع المطار، وكل الشوارع المؤدية إلى عمان، تتوالد الأكواخ التي تبيع القهوة والمرطبات والدخان والفواكه، وأشياء أخرى. وبعضها يحتل جزءا من حرم الطريق. وأحيانا يقرر الأشخاص بأن الوقوف في أي من المساحات والأماكن المحيطة بهم يكلف خمسة أو سبعة دنانير، ولا أحد يراقب أو يتابع.
ثالثا: في إحدى مؤسساتنا العتيدة، والتي كانت منارة ثقافية وفكرية، يوجد مرفق مهم يحتاج إلى إنارة. ومع وجود عشرات المدراء وعشرات الضبوطات التي قدمت بهذا الخصوص، تأتي إجابة المدير العام بأنهم بانتظار شحنة "اللمبات" التي ستأتي. ألا يثير ذلك تساؤلا عن الإخفاق في إدارة أبسط الأمور؟
في كثير من الأحيان، يتملكك الإحباط والغضب، وربما القنوط، وأنت ترى آلاف الموظفين والمستخدمين، وعشرات المدراء، لا يستطيعون حل مشكلة بسيطة، فيما يتزاحمون على الترقية والسفر والامتيازات، ويشبعونك حديثا عن نزاهتهم واستقامتهم وحبهم اللامتناهي للخدمة التي لا ترى برهانا مقنعا عليها.
السؤال المطروح: كيف جاء هؤلاء الأشخاص إلى هذه المواقع؟ هل هناك معايير للأداء غير الأدوات المكتبية، والمجاملة والرضا والدعم؟ أين هو الحديث عن التميز وعن مئات شهادات الدكتوراه في الإدارة، وخبراء الاتصال والتنمية الذين أصبحوا يملؤون فضاء إداراتنا ومؤسساتنا؟
على عاتق المؤسسات، تقع مسؤولية نجاح الدولة في أداء أدوارها تجاه مواطنيها ومستقبلهم؛ فكلما كانت المؤسسات كفؤة،ساد النظام وتعالى البنيان وتحققت التنمية، وتحقق الرضا والاحترام والتقدير الجماهيري والدولي. في المقابل، فإن الغياب والتسيب، وضعف الدافعية، وتنامي اللجوء إلى الواسطة والمحسوبية، وانتشار الشللية وتداخل المصالح الخاصة مع العامة، وتفشي الرشوة والفساد، هي بعض من الأمراض التي تجتاح الإدارة العامة والخاصة، وتؤثر سلبا على علاقة الدولة بالمواطنين، وثقة الناس بالمؤسسات وانتمائهم.
العثور على "الطاسة الضايعة"، وإعادة الضرب عليها، ضروري للحفاظ على مؤسساتنا العريقة التي كانت على درجة عالية من الكفاءة والفعالية، يديرها أشخاص يتمتعون بالجدارة، ولديهم القدرة على أن يجيبوا عن أسئلتك مهما كانت صعبة؛ ليس لأنهم يريدون إبراء الذمة والتحلل من المسؤولية، بل لأنهم يشعرون بجسامة المسؤولية القانونية والإدارية والأخلاقية.
الغد.