الدكتور عبد الله النسور .. مفكراً
بلال حسن التل
05-08-2015 04:01 AM
كنت ضمن وفد فريق التعليم، المنبثق عن جماعة عمان لحوارات المستقبل المشارك في مؤتمر التطوير التربوي، الذي نظمته وزارة التربية والتعليم عندما نجح دولة الدكتور عبد الله النسور ببراعةٍ فائقة في أن ينقل المؤتمر من أجواء الافتتاح البرتوكولية، إلى أجواء أخرى فيها من البُعد الرسالي الشيء الكثير، خاصةً عندما خلع دولته رداء المجاملة الذي يرتديه السياسي في هكذا مناسبات، ليستبدله بثوب المفكر والرائد الذي لا يكذب قومه، بل يواجههم بالحقائق مهما كانت صادمة، لأن ذلك هو طريق البراء من السقام، ولأن هذا هو ديدن النطاسي البارع الذي يحسن صنع الدواء، بعد أن يحسن تشخيص الداء، وأول الدواء لواقع التعليم في بلدنا هو تحمل المسؤولية، لذلك دعا دولته المؤتمر إلى تحمل مسؤولية إنقاذ الأجيال وصياغة مستقبلها عندما خاطب المؤتمر بقوله: (أنتم لستم في مؤتمر عادي بل في واحد من أهم المؤتمرات وأخطرها على الإطلاق، فإما أن تخرجوا من هنا بحلول سطحية فارغة، أو الخروج برؤية عميقة تؤرخ للتربية والتعليم).
بهذا الخطاب يكون الدكتور النسور قد أصاب كبد الحقيقة، كيف لا وهو التربوي العريق الذي خبر مسيرة التعليم في بلدنا وواكبها في كل مراحلها التاريخية، وفي كل مستوياتها العلمية معلمًا في المدارس والمعاهد والجامعات، وقائدا لوزارة التربية، وربانًا لأعلى درجات المسؤولية في الجامعات، جامعًا بين الخبرتين العملية والعلمية فإن كان هناك من قد ينكر بعض مزايا الدكتور النسور فان أحدًا لا يستطيع الجدل في واسع ثقافته وعلمه مما زاد مسيرته ثراءً على ثراء. وعندي أن الدكتور النسور بكلمته في افتتاح مؤتمر التطوير التربوي لم يكن يتحدث بلسان السياسي الذي يبحث عن حلو الكلام ليدغدغ به عواطف الناس، لكنه كان يتحدث بعقل المفكر الذي ينير الدرب أمام الناس، بل إنني أستطيع القول أن الدكتور النسور لم يعتل في افتتاحه للمؤتمر منصة الخطابة لكنه امتطى صهوة جواد الرائد الذي لا يكذب أهله. وهذه واحدة تسجل للرجل الذي يعترف الجميع بقدراته وخبرته وتجاربه وشجاعته على اتخاذ القرارات الصعبة وغير الشعبية والتي لا يوازيها إلا قدرته على إعلان الاعترافات الخطيرة والشجاعة التي لا يمارسها في العادة الساسة إلا أصحاب الرؤية منهم، مثلما فعل الدكتور عبد الله النسور في افتتاح مؤتمر التطوير التربوي حيث حملت كلمة دولته الكثير من الاعترافات الخطيرة، وأولها (إننا سهونا طيلة عقود من الزمن عن النوع في التعليم وانصرفنا الى الكم في هذه العملية). وبهذا الاعتراف يكون الدكتور النسور قد وضع أُصبعه على بيت الداء، وفجر الدمل الذي نتهامس حول مدى التهابه وخطورته، لكن أحدًا بالمستوى الرسمي للدكتور النسور لم يقدم على تفجير هذا الدمل كما فعل هو في افتتاحه لمؤتمر التطوير التربوي، داعيًا إلى معالجته معالجةً جذرية، بعيدًا عن المسكنات التي أدمناها.
لم يكتف الدكتور النسور في كلمته التي افتتح بها المؤتمر بالتأشير على مواطن الخلل لكنه قدم رؤية للعلاج، أستطيع القول بأنها ذات أبعاد حضارية تؤشر على جوانب من مكونات شخصية الدكتور النسور التي لم تستطع السياسة أن تنتصر عليها، أعنى بها البعد الفكري والثقافي في هذه المكونات، وهو البعد الذي جسدته الرؤية الشاملة لطرح الدكتور النسور لمشكلة التعليم في بلدنا بعيدًا عن الحلول المجتزئة التي اتسمت بها المرحلة الماضية من تاريخ التعليم في بلدنا والتي حكمتها (اجتهاداتٌ فرديةٌ ناتجةٌ عن السلطة التقديرية الواسعة والتجربة والخطأ بخاصة «سياسة التنجيح التلقائي» التي افرزت حالة تربوية فريدة. مثلما عانت حالة من التردد والتراخي وعدم الحسم وغياب المساءلة في هذا القطاع، وبشكلٍ يتنافى مع مبدأ أمانة الوظيفة العامة وغياب ثقافة العمل والإحساس بالمسؤولية وغياب مفهوم التعليم بالقدرة) كما قال الدكتور محمد ذنيبات نائب رئيس الوزراء وزير التربية والتعليم في كلمته في حفل افتتاح المؤتمر، معددًا أمراض قطاع التعليم، لتحمل كلمة الدكتور النسور سُبل علاجها، في إطار رؤية شاملة «ندخل معها مرحلةً جديدة نقف فيها على مفترق طرق تستدعي منا جميعًا العمل على إنقاذ الأجيال القادمة وصياغة مستقبلها.
وهذا يستدعي منا أن ندرك أن التعليم ليس عملية منتهية تخص جيلاً دون جيل ومجتمعًا دون مجتمع لكنه إرثٌ انسانيٌ تشارك به الأمم» وهو بالضبط ما أشار إليه الدكتور النسور بل أكد عليه، «إذا أردنا أن نبقى في قطار الحياة الذي يواصل سيره بشكلٍ متسارع يستدعي أن تنتفع مؤسساتنا من التجارب العالمية والطاقات البشرية المتوافرة محليًا وعالميًا» مثلما أكد دولته على أهمية «مشاركتنا في التفاعل بين الثقافات بشكل يمكننا من الاستفادة من هذا التفاعل بأسلوبٍ علمي قادر على الانفتاح والتعامل مع الشعوب وثقافاتها وليس الغربة والانزواء والابتعاد» وكأني بالدكتور النسور يُذَكِر المؤتمرين بصورة العلم والعلماء كما كانت في عصور ازدهار حضارتنا أيام الرشيد والأمين والمأمون، عندما كانت بلادنا مصدر العلم والعلماء وبوتقة التفاعل بين الشعوب على قاعدة (وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) فالانفتاح والتفاعل سمة الحضارات القوية كحضارتنا، وهي الحقيقة التي ذكر بها الدكتور النسور وهو يؤذن في المؤتمرين بقوله (افتحوا النوافذ ولا تخشوا شيئًا لأن حضارتنا وثقافتنا قوية مبنية على الانفتاح).
وبعد،، فكثيرة هي المضامين التي حملتها كلمة الدكتور عبد الله النسور في افتتاح مؤتمر التطوير التربوي، والتي تستحق وقفات طويلة لتحويلها إلى برامج عمل للنهوض بالتعليم في بلدنا، فهي كلمة فوق أنها حملة خلاصة تجربة طويلة في شتى حقول الحياة وفي التعليم على وجه الخصوص فقد أكدت أن المفكر أقوى من السياسي، فكيف إذا اجتمعا في شخصٍ واحدٍ كما هو الحال مع د. عبدالله النسور.
الرأي