الدولة لا تستمد قيمها من المهرجانات .. !
حسين الرواشدة
04-08-2015 03:48 AM
اذا كان الذين اتهموا مهرجان جرش «بالفسق والفجور» اخطأوا في التوصيف، واساءوا الى الجمهور الذي يرغب الاستمتاع بالغناء والطرب، فان الذين انتقدوا المهرجان وبالغوا بالحفاوة به، وقذفوا منتقديه «بالاساءات» اخطأوا ايضا.
حزب المنتقدين كان بمقدورهم ان يكونوا اكثر اقناعا لو اعتمدوا «لغة» اكثر تهذيبا وادرجوا اسبابا تشرح موقفهم بوضوح، خذ مثلا توقيت اقامة المهرجان في محيط مليء بالدماء و الاشلاء و الكوارث، خذ ايضا عنوان الثقافة والفنون الذي تحول على المدرجات الى عروض طربية، بعضها خادشة للحياء العام، خذ ثالثا موازنة المهرجان الكبيرة وحجم الكلفة التي تحتملها الدولة باجهزتها للاشراف على المهرجان و تنظيمه، وخذ اخيرا امكانية الاكتفاء بالنقد وعدم المساس بحرية الناس في المشاركة بالمهرجان وحضوره، فالمسألة لا تتعلق بالحرام والحلال وانما بالخطأ و الصواب، الا اذا كنا جميعا تحولنا الى دائرة افتاء.
في موازاة ذلك كانت اخطاء اخواننا «الليبراليين» صارخة اكثر، فقد اشهروا غضبهم على كل من انتقد المهرجان و اعتبروا انهم «اعداء» لقيم الدولة، ثم طالبوا الدولة بالدفاع عن قيمها، وكأن المهرجان من صميم قيم الدولة، لم يسألوا انفسهم عن هذه القيم التي يدافعون عنها، هل هي الحرية ؟ هذه لا تسمح لهم بمصادرة اراء وافكار غيرهم حتى ولو كانت قاسية؟ هل هي العدالة؟ وماذا يمثل مهرجان جرش او غيره من «عدالة» ..؟ وحتى لو افترضنا – جدلا - انه يمثلها فأين هي اولويات العدالة التي يجب ان نغضب من اجلها، ثم ماذا عن هوية الدولة التي عبر عنها دستورها وراياتها المرفوعة، هل لمهرجان، اي مهرجان، مكان فيها، اليست كلها تتناغم مع الدين الذي هو مرجعية الدولة والباعث الاساسي لثقافاتها وحضاراتها، ترى هل «للدين» بافكاره وقيمه مكان في المهرجان؟
من واجب هؤلاء، ربما، ان يذكرونا بحق الجمهور في الاستماع بالطرب، وبالتنوع الثقافي، و بالحرية التي تسمح للجميع ان ينظر للحياة كما يشاء، لكن ليس من حقهم ابدا ان يحشرونا في زاوية قيم الدولة المدنية، لا لاننا ابدا ضد المدنية، وانما لان المهرجان لا علاقة له لا بالمدنية ولا بقيم الدولة، ولان الذين انتقدوه او هاجموه ليسوا ضد قيم الدولة المعتبرة في الحرية والتعددية والعدالة متى كانت مساطرها مستقيمة، ومتى كانت موازينها لا تطفف لاحد على حساب احد.
بين فكي كماشة «التحريم» باسم الدين و «التجريم» باسم قيم الدولة المدنية يريد البعض ان يضعنا في حالة "استقطاب" مغشوش لكي يصفي حسابات سياسية لا علاقة لنا بها كما انه لا علاقة لها بالدين ولا بالدولة.
في وقت مضى اشهر بعض اصدقائنا الليبراليين وصف «اعداء الحياة» ضد كل من ينتقد مهرجانات الطرب في بلادنا، وقتها قلت بان من حق الناس ان تختار حياتها الطيبة، كما تراها وكما تتصورها، ولا يحق لاحد ان يفرض نمطا للحياة الطيبة ثم يعممه على الجميع، اما اليوم فقد ابتدعوا «قيم الدولة المدنية» لكي يخرجوا كل من ينتقد المهرجانات من دائرة الملة « المدنية» و ربما الوطنية، ولكي يقرروا ما يريدون من قيم للدولة التي استقرت قيمها وهويتها في الذاكرة الوطنية من خلال رموز عديدة، ليس بينها بالتأكيد مهرجان يقام هنا او هناك.
يمكن ان نختلف حول جدوى مهرجان جرش، أو حول «وصفة» الحياة التي تسعد الناس، أو حول «مشروعية» الفنون والطرب، لكن ما لا يجوز ان نختلف عليه هو قيم الدولة الحقيقية، وحق الآخر في التعبير عن رأيه بلا إساءة أو تجريح، وحق المجتمع بالحفاظ على قيمه بلا قهر ولا إكراه، وحق الناس في «التمتع» بحياتهم وعدم التدخل في خياراتهم الخاصة ما لم تتصادم مع «القيم» العامة التي تشكل هوية الدولة والمجتمع.
ومع ذلك ارجو ان تسامحونا، فنحن نحب الحياة كما تحبونها ونريد ان نستمتع بها، ونعشق الفنون الجميلة التي تحرك ارواحنا، لسنا ضد الحياة ولا الفن الاصيل ولا الطرب النظيف ولا مهرجانات الثقافة والفنون المعتبرة، ولا ضد قيم الدولة "المدنية" في الحرية والتنوع والعدالة، ومع حق الناس في الترفيه والاستمتاع، لكننا، دون ان نصادر حق اي احد، نحب الحياة متى كانت طيبة نظيفة، والفنون متى كانت بريئة لا تروج للابتذال واثارة الغرائز، ونحترم قيم الدولة وندافع عنها، لكن اسمحوا لنا فقط ان نقول لكم : لا ترهبونا بوصف «اعداء الحياة» او بسيف قيم الدولة، فنحن مثلكم تماما لنا حياتنا التي نحبها وقيمنا التي نحترمها، ومن حقنا ان ندافع عنهما.
الدستور