الثاني من آب: بالكيماوي يا صدام
02-08-2015 03:49 PM
الثاني من آب 1990. صدام حسين يحتشدُ بالغرور، ويغزو الكويت. يذهبُ في أكثر الذرائعِ قُبحاً، ويستبيحُ أرضاً وشعباً، ويجرُّ الأردنيين إلى أكثر فضائح التاريخ العربيِّ الحديث تشوُّهاً وكذباً، فنهتفُ لهُ، وندخلُ معه في أسوأ منقلبٍ، وننقلبُ على بلادنا، فتخسرُ منذُ ربع قرنٍ، ولا نندم.
في مثل هذا اليوم، ذهبنا مع صدام، وذهب بِنَا إلى حيثُ لا عودةَ في الخسارات. دَخَلَ الطاغيةُ المريضُ إلى "حوش" الجار، وقال: هذا البيتُ لي، وهذه الدارُ، وهذا الرملُ، وذلك التاريخُ، بكلّ الزيف والخديعة، مثل لصٍّ يبحثُ عن غنائم، ولا يأبه لأيّ رادع. كلُّ اللصوص احتشدوا في صدام حسين مرةً واحدة، واحتشدنا خلفه، ولم يكن فيه "روبن هود" ولا "عروة بن الورد"، كان فيه قاطعُ طريقٍ، ربّاهُ حزبُ البعث على التعصُّب والجهالات، وعقّ الجار، وعضّ اليد التي امتدت له في حربه التي انتهت للتوّ، دُونَ نصر، ودون كبرياء.
في الثاني من آب 1990، ذهبنا في مجازفةٍ رعناءَ مع صدام حسين. خدعَ الديكتاتورُ الأردنيين، بصلاته على الخليج. ووضع "الله أكبر" وشماً دعائياً على العلم العراقي. تجمّعت الجيوشُ في حفر الباطن، وقالت خرافتنا المشتهاة: "صادمُ يُبيدهم في بيداء". كانت معركةُ "الخفجي". صدّقَ الأردنيونَ وبعضُ العرب أوهامهم، ورسموا صدام في القمر، فأصبحَ كالحاً في الصورة والمخيال.
استباحَ الطاغيةُ الكويتَ أرضاً وشعباً، وقتل الآلاف، ونهبَ الترابَ والرخامَ والأحلامَ، وقطعَ الأكسجينَ عن حاضنات الأطفال، فلم ننتبه في غفلتنا المريبة. اخترعنا أحاديثَ نبويةً عن رجلٍ في آخر الزمان، يسجدُ له جورج بوش الأب. صرخنا بالعربيّ الفصيح في الشوارع: بالكيماوي يا صدام. وتلك لغةٌ يطربُ لها ابْنُ عمّه علي الكيماويّ المجرّب في حلبجة.
الكويتيون، قبل "صادم، وبيداء، وآب 1990" كانوا يمنحون الأردن نفطاً ومساعدات دون حساب. كان 300 ألف أردني يعملون في الكويت، ويعيشون، ويذهبُ أولادهم إلى المدارس، وننعمُ ببعض ما ينعمُ به أهلُ البلد، ثم قلنا: يا أَهْلَ الكويت: نَحْنُ مع المجرم الذي ذهبَ في القبح إلى أقصاهُ، وصفقنا له، وحملنا صورته، حين شيَّعَ الكويتيينَ إلى المراثي والآلام والمقابر.
ربعُ قرنٍ مرّت على كارثة الكويت والعراق. اندحرَ الطاغيةُ أمامَ الجيوش، ولم تجد الدباباتُ والخرافات. عاشَ الكويتيون الكارثة بين أرضٍ منهوبة، وقتلى وأسرى، وغضبَ العراقيون شمالاً وجنوباً. سمَّاهم المجرمُ الوضيعُ غوغاءَ، وسحقَ شعبه في الانتفاضة الشعبانية، فخسرَ الأردنيون شعبيْن شقيقين. ولم يجد صدامُ ذِمَّة يشتريها إلا جورج غالاوي و"معارضين" أردنيين، سرَقَ لهم من خبز العراقيين منحاً نفطية، قَبْلَ أن نصحو رسميّاً من الخديعة مع هروب حسين كامل، ونتخدّرُ شعبياً في أساطير الطاغية، ونتعاطاه مخدراتٍ سوداء.
سقطَ الطاغيةُ في الحفرة، وتصافح الكويتيون والعراقيون، وَنَحْنُ ما نزالُ في عماءٍ مبين. خسرنا العراقَ والكويتَ معاً. ظنَّ كثيرنا أنّ الجراحَ تبرأُ حينَ تلتقي الوفودُ الرسمية، وتؤكدُ "عمق العلاقات المشتركة". لم تتوجه وفودٌ شعبيةّ أردنيةٌ إلى العراق والكويت، وتعتذرُ عن الخطأ العميق الذي يشبهُ ندوباً غائرة.
تداركَ الأردنُ الرسمي ما أمكنه للخروج من كارثة الثاني من آب 1990، واحتضنَ المعارضة العراقية بعد منتصف التسعينات، لكنّ الاردنيّ ظلّ مكروهاً في الكويت والعراق، فكلّما بردَ الجرحُ، رفعَ بَعضُنَا صور صدام حسين في هذه المظاهرة أو تلك، مرةً لأجل النكاية، وأخرى لأجل فلسطين، ولا يزالُ صدّامُ شهيد الأردنيين وحدهم، ولا زلنا نتلذذ في ربع قرن من التيه..