الرفايعة يكتب في عيد مبلاده
باسل الرفايعة
01-08-2015 05:00 AM
اليومُ عيدُ ميلادي..
أنا في الـ49 تماماً. وَمَنْ يعشْ نصفَ قرنٍ إلاّ قليلا، فلا بأسَ عليه، فالأطفالُ والشبابُ يموتونَ في المجاعات والحروب، والرياضيونُ بالجلطات القلبية، والأمهاتُ والآباء بحوادث المرور، كما تأذنُ لك الْحَيَاةُ، وتمنحكَ نهاراً آخرَ، ونوماً تصحو منه على طعم معجون أسنانٍ، وإفطارٍ وقهوة.
عشتُ حتى أرى كلّ ما أرى. نجوتُ من الكوليرا والجدريّ ًوالتيفوئيد، دُونَ مطاعيم. كانت منظمة "كير" العالميّة تزور قريتي، لتوفّرَ للأطفالِ اللقاحات، غير أنّ ثمةَ من قالََ إنها منظمة صهيونية، وتريدُ تحديدَ نسلِ الرفايعة والعرب عموماً، لئلا يخرجَ من بينهم مثل آينشتين أو نيوتن، أو لئلا تنفجرَ قنبلةٌ سكّانيةٌ في وجه اسرائيل. هكذا منعَ الآباءُ الأمهاتِ من الانخراط في مؤامرة "كير" على جيلي، وَنَحْنُ طبعاً "نتناسلُ ونتكاثر".. ونقطعُ الطريق على الأوروبيين، لئلا يتباهوا بينَ الأمم. وما همَّ إنْ لمْ يكنْ منا ستيفن هوكينج، ولا مارك زوكربيرغ.
نجوتُ من أمراض الطفولة. أنا مثالٌ حيٌّ على الانتخاب الطبيعيّ، فقد ماتَ أربعةٌ من أشقائي أطفالاً، بعضهم في المهد. لم أحظَ برضاعة طبيعية، وتولّت أمري عنزٌ قروية، بحليبٍ سخيٍّ وطازج، وكبرتُ بمناعةٍ وطعامٍ بعليٍّ، أكثره من الخبز واللبن والسّمن وجريش القمح والعدس. وكان لي قثّاءٌ في التلاع، ولوزٌ مرٌّ، وأهازيجُ حصّادين.
وُلدتُ في الأولِ من آب (أغسطس) في العام 1966، قَبْلَ عامٍ من نكسة حزيران. تقولُ أمي أنني وُلدتُ في عمَّان، ثم انتقلنا، بعد أشهرٍ الى بئرخداد في جنوب الجنوب. المؤكدُ أنّ طفولتي كانت في بيتٍ من الحجر والطين، وفي قريةٍ رعويّة. الماءُ من البئر. بواسطة الدواب. الانارةُ بزيتِ الكاز. الاتصالاتُ بالنداء، قَبْلَ هاتفٍ بدائيٍّ وحيد. المواصلاتُ توفرها الحميرُ والبغالُ. الطاقةُ من الحطبِ وروْث الحيوانات. هذا يعني أنّ لا مسافةَ بعيدةً بيني وبينَ أبي الحكم عمرو بن هشام، صاحبِ مقولة "إِنَّهُ أمرٌ دُبِّرَ بليل". وهو فعلا أمرٌ دبَّرهُ الآباءُ والأمهاتُ بليلِ القرى الطويل، فجئنا بتدبيرهم، وعشنا..
يبلغُ أحدنا نصفَ قرن، ويكادُ يَكُونُ إمبراطوراً على أحلامه، فيكبرُ، ولا مشقّةَ سوى كوليسترول، يمنعهُ من لحمٍ تمنّاهُ في الطفولة، وبعضُ آلامٍ في القولون، وتلك من مهنة الصحافة، التي تجذبُ أبناءَ الفقراء، بأحلامٍ يسارية.
لا عليكم. أنا اليوم سعيدٌ ومُمتنٌّ. تكبرُ فيَّ الأشجارُ والأسرارُ، وأكرهُ الحطّابينَ والأشرارَ. نجوتُ كثيراً، وكلُّ ذلك لا يساوي نجاةً مُحققةً من الخرافة، وحينَ أعيشُ في ما تبقّى بين عائلتي وحرزها الحريزِ على قلبي، سأمشي في الطرقات كصبيٍّ، وحينَ أجدُ خبزاً يابساً أبوسُهُ، وأرفعهُ عن الطريق، وأمضي، كرجلٍ في التاسعة والأربعين، ما يزالُ يذكرُ كلَّ ما يُرِيدُ. وأعظمُ خسائره نظّارةٌ للقراءة، وأدويةٌ للقولون..