بعد عام على حرق الفتى محمد أبو خضير، أبى الصهاينة إلا أن يذكّرونا بأنهم موجودون هنا؛ يستمتعون بقتلنا، وحرق قلوبنا قبل أجسادنا. نعم يحرقون قلوبنا بحرق أطفالنا واعتقال خيرة رجالنا ونسائنا.
لم يحمل علي دوابشة حجرا بعد، ولم ينطق لسانه باسم فلسطين، ولم ينشد للمقاومة، ولم يلعن الغزاة، فهو لم يكمل عامين بعد، لكن القتلة كانوا له بالمرصاد، فأحرقوه ووالديه وشقيقه.
لم يحتمل الرضيع النيران، فذهب إلى ربه يشكو ظلم القتلة؛ وتخاذل الأشقاء؛ ودناءة المتعاونين مع المحتل، بينما جاهد الوالدان والشقيق لكي يبقوا على قيد الحياة، ربما لكي يرووا الحكاية للأجيال مرة إثر مرة.
لسنا بحاجة إلى حرق طفل أو اثنين أو أكثر، ففي غزة أحرقت بيوت وأطفال بلا عدد بنيران الطيران الصهيوني، وتاريخ الصهاينة هو تاريخ من القتل والاغتصاب.. نعم لسنا في حاجة إلى ذلك حتى نتذكر أن هناك وطنا يحتله غزاة جاؤوا من كل أصقاع الأرض، وأن هذا الوطن بحاجة إلى تحرير، وأن التحرير لن يكون من دون مقاومة ودماء، لكن الذين باعوا ضمائرهم، ورضوا بالذلة يرفضون ذلك، ولا يجد خطيب جامعهم في الرد على جريمة حرق الطفل سوى القول إن الرد العربي على الجريمة ينبغي أن يتمثل في دعم موازنة السلطة.
هكذا، يكون الرد بدعم موازنة السلطة، ليس لأنها ستحمي الفلسطينيين أو تحرر أرضهم، بل لأنها ستغدو أكثر كفاءة في حماية أمن المحتلين، وتأمين الرفاه لدولتهم ومواطنيهم. تلك هي مهمتها التي أسست من أجلها، ولن تتغير حتى ينقلب عليها الشعب، ويضع قضيته على السكة الصحيحة.
قبل ساعات فقط من حرق الرضيع علي دوابشة على يد المستوطنين، كان أسود الأمن الوقائي الذي صاغ عقيدة جهازهم الجنرال دايتون يداهمون بيت الشهيد المهندس يحيى عياش من أجل اعتقال نجله البكر براء، وحين لم يجدوه سلموا أمه إخطارا بمراجعة تلك الأجهزة، وإلا!!
إنه موت من نوع آخر يداهمنا كل يوم.. موت الضمير، وموت الكرامة، ذلك أن الشعب الفلسطيني ليس في حاجة إلى حرق طفل حتى ينتفض، فالاحتلال وحده يكفي لكييحدث ذلك، حتى لو فتح الحواجز وأطلق الأسرى، فضلا عن أن يكدس منهم في سجونه أكثر من ستة آلاف، هم خيرة أبناء الشعب.
كان الفلسطينيون قد أعلنوا يوم أمس الجمعة، يوم غضب من أجل الأقصى ضد الانتهاكات التي يتعرض لها على يد المستوطنين وجيش الاحتلال، فكان حرق الرضيع وأهله وبيته، فكانت جمعة مشتركة للقضيتين، فيما كان هاجس السلطة أن تضبط الأوضاع كي لا تذهب في اتجاه الانفجار، فذلك هو هاجسها ولا شيء آخر، ويخرج كبيرها كي يبشرنا بأنه سيذهب إلى المحكمة الجنائية الدولية ردا على جريمة إحراق الطفل.
إنهم يفعلون أي شيء من أجل أن يهربوا من الاستحقاق الطبيعي، ومن المسار الذي اختطته كل الشعوب الحرة حين واجهت الاحتلال. فقد رضوا بالذلة، ورضوا ببطاقات الفي آي بي واستثمارات الحبايب، ولا يريدون أن يخرّبوا ذلك من أجل “شعارات رنانة” كما يردد بعضهم!!
إنه التيه الذي تعيشه هذه القضية المقدسة؛ في ظل قيادة أدمنت التيه، وأدمنت هذا الحال، هي التي وقفت ضد كل الشعب يوم أجمع على مسار المقاومة في انتفاضة الأقصى، ولا أمل بالخروج من هذا التيه إلا بانتفاضة شاملة تواجه الغزاة وتبعد أذنابهم في آن.
يمضي علي دوابشة إلى ربه طائرا جميلا.. يمضي إلى حيث لا ظلم ولا حرق إلا للقتلة والمجرمين، بينما يتركنا نعيش هذا القهر المزمن، بين غزاة أشقياء، وبين قادة أدمنوا الذل، ولا يريدون التحرر منه، بل لا يفكرون في منح الشعب فرصة التحرر منه أيضا.
الدستور