بعض من الرسائل الإلكترونية وصلتني من الأردن وبعض الأعزاء من المغتربين الأرادنة في الخارج وبعض من الإخوة العرب مطالبة بشرح عبارة (مستشار شؤون الدحية) التي وردت في مقالتي (صورتنا في الخارج 2) فكانت هذه المقالة (شبه المقامة)..
المكان : بئر مدكور في وادي عربة.. مركز الإسعاف الفوري
الزمان: أواسط ثمانينيات القرن العشرين ...ذات سمر..
وبينما نحن جلوس نتسامر.. وعلى موعد الإجازة نتآمر.. وفيم يتسامر المسعفون والعسكر؟ حوادث السير ولدغات العقارب وأسعار الشاي والسكر .. الخ..
(فنيخير الجزاع) من الناس الذين خبروا الحياة في البادية بكل أشكالها.. رعى الإبل.. وخدم سابقا في شرطة البادية.. وقال الشعر وحفظه.. وغنى ورقص السامر.... وكان يصيب البيضة ب (الميم 14) بعيني صقر.. زميل من طراز خاص، أطلقت عليه لقب (وزير السامر)، كان سائقا لسيارة الإسعاف. الآخرون جميعا من أبناء قرى الكرك ما عدا شرطي بادية من الجيران يضع (الميم 14) بجانبه. المجلس كله كان على الرمل ، غير آبهين بالعقارب والعناكب والنمل.
هناك.. أطل علينا خميس بن جمعة يمتطي جرارا زراعيا (تراكتور) يبحث عن السمّار والسمر.. وكان أول ما قال بعد طرح السلام: قبح الله جلستكم.. في هذا الليل الساحر تتحدثون عن (شغلكم)!! ولا ترون الهلال ولا الثريا .. والميازين.. (كان مفتونا باستعراض معلوماته الفلكية) دعكم من هذا الهراء وقوموا (عمروها) يعني عمروا الرقصة ( السامر)
لم يجلس خميس بن جمعة.. لأنه أسرع إلى ( اللدايا) وأشعل بينها (قرمية غضى) ووضع الشاي على النار
تناول ال(ميم 14) وأطلق طلقتين..
انتفض فنيخير الجزاع ووقف .. واصطففنا بجانبه.. وعمرناها
( شدّ لّي خمسة ركايب ... واكتب عليهن كتايب) وبعد عشرين بيتا.. (دحينا.. بحماس)
وبينما نحن في هرج ومرج، إذ أسكتنا خميس بن جمعة فجأة .. ثم وجه إليّ الخطاب وظن أنه أحرجني حين قال: نحن نهرف بما لا نعرف .. هل تستطيع أيها الشاعر الفطين، صاحب الشعراء والصحفيين، يا من لم يأبه بك أحد غيري، يا أعور بين عميان... أن تفسر لنا ما نقوله من ألفاظ؟
لعنته في سري... لأني خسرت طقس نار الغضى والشاي والثريا، ودخلت المركز.. وهناك أخذت أحك رأسي وأستنبط وأتأول وأخربش.. حتى خرجت منتشيا بما تأولته غير آبه بصوابه من خطئه، وقلت لهم:
نحن نبدأ الرقصة بلفظ ( إردي يا حّي) وهي الجملة الواضحة الوحيدة، وتعني: (إردي) فعل أمر يعني اخسئي.. والجنوبيون يقولون (إردي) إذا رفع شخص صوته بكلام غير لائق.. بمعنى (إلبد )وأحيانا بدلا من (إخرس) مثلا.. وال يا للنداء , (حّي) أصلها أحّي وهي علامة البرد .. يصبح المعنى (تأويلا) : اخسأ أيها البرد، لأن النار ستشتعل، وبالتالي اخسأ أيها الخوف .. والجوع ..الخ .. ومع السرعة تتحول (إردي يا حي) إلى (ها دحّي .. هي دحّي.... ثم يدخل القلب المكاني على الأحرف .. هي دحي إلى.. دحي هي دحي هي ..الخ) فلا نعود ندري ماذا نقول فيها..
صرخ (فنيخير الجزاع) منتشيا بالاكتشاف بعد أن كان يرددها أربعين عاما دون أن يدري أنها تحمل كل هذه النخوة، صرخ الرجل الذي كنا نلقبه (وزير السامر ) .. صرخ وقال لي فرحا وممازحا: الله أكبر ..ينصر دينك..لقد عينتك مستشارا لشؤون (الدحية)
وإلى اليوم أتذكر أنا وخميس بن جمعة ذلك اللقب العزيز (مستشار شؤون الدحية) و(تأويلي) (للدحية) ودلالاتها .. والنخوة التي تطرد (البرد والجوع) .. ونتحسر عليها كلما قرأنا أو سمعنا عن أهلنا الذين لا يجدون ثمن الكاز أو الخبز... ولا أحد يجرؤ على قول: (إردي يا أحي) أو اخسأ أيها البرد.. فنبكي في غربتنا حتى نذوب، وتصبح العين (جمرة غضى).
.......................
Amann272@hotmail.com
اللدايا: هي الأثافي
التأويل قابل للنقد والنقض