ما نشكو منه جميعا في واقع عربي تجاوز خيال العرّافات وما تصوره بعض الفلاسفة من ديستوبيا او مدينة راذلة مقابل المدينة الفاضلة ليس وليد اللحظة، كما انه ليس نبتا شيطانيا او طحالب تطفو على مستنقع، فقد جرى التخطيط له منذ عقود حين بدأ تجريف الثقافة والحاق فلولها بالاعلام والاعلان، وحين تحول الكائن الى سلعة في سعار استهلاكي لا تلوح له نهاية.
أذكر ان مثقفا فرنسيا هو ريجيه دوبرييه زار عواصم عربية وسجّل ملاحظاته كمثقف يساري، ومنها ان المكتبات تحولت الى محلات متخصصة في الاكسسوارات ولعب الاطفال واقتصرت رفوفها على كتب الطبخ والترشيق وبعض الخزعبلات التي تُنسب افتراء الى الدين.
وكذلك الصيدليات، فقد شاهد واجهاتها وهي تتحول الى دكاكين لعرض الكماليات لكن ما لم يشاهده دوبرييه لأنه مجرد زائر عابر هو ما طرأ علينا من أنماط تفكير وسلوك، تعود الى ما قبل حمورابي وابن خلدون وسائر الابناء!
ولم يكن الرقيب العربي مشغولا برصد هذه المتغيرات والاستراتيجية التي رسمت بعناية فائقة لجعل كل المفاعيل في حياتنا سلبية، لأنه مشغول بشيء آخر تماما هو استئصال كل ما له صلة بتنمية الوعي وتعميق المعرفة، لأن المطلوب هو مجتمعات مُعقّمة، وداجنة يحكمها فقه القطعنة ويحظر فيها على الافراد ان يفكروا ولو لحظة بحق الاختلاف.
لقد باضت الافاعي في الكتب والأواني وجيوب المعاطف قبل عقود، وانتظرت حاضنة نموذجية كي تفقس وتتسلل من الثياب والخزائن وصدوع الجدران، وهذا ما عبّر عنه ذات يوم الراحل نزار قباني حين قال، ان الاعداء تسربوا من ثقوب الاسوار والثياب والجدران.
ما نراه ونسمعه على مدار اللحظة ليس نتاج اليوم او البارحة، انه نتاج ثقافة مُلفّقة، تحاول تقديم أطروحات مضادة للهوية والهاجس القومي وبالتالي تفرز هذه التفاهة التي ادت الى الاختناق بسبب ندرة الاكسجين ووفرة الاكاسيد.
ولا بد من الاعتراف لمن خطط لمثل هذا الواقع بأنه نجح بالفعل ولم تجد السكين التي استخدمها اية مصدات سواء في لحمنا او في أرضنا او في عقولنا.
ما ننفقه على الثرثرة بالهواتف يكفي وحده لتأمين الملايين صحيا ونفسيا، ومقولة برنارد شو الشهيرة عن غزارة الانتاج وسوء التوزيع لا تتعلق بصلعته ولحيته فقط، بل هي التعبير الأدق عن امثالنا !
الدستور