الى علاء الذي أوجعنا رحيله
خالد محادين
13-05-2008 03:00 AM
لم التق بك ولم أتعرف عليك، لكنني وأنا اقرأ مقالاتك وانظر الى صورتك كنت اشعر انني أعرفك منذ زمن بعيد، وانك تعيد لي شبابي الذي ودعته، وتضعني بمضمون وأسلوب ما تكتب أمام موهبة حقيقية.
وكانت أحدي امنتياتي ان التقي بك هذا الصيف أنت وقد عدت من الصين تحمل قلباً غريباً عنك، وانا بعد عودتي من بريطانيا احمل قطعة صغيرة من كبد متبرع نبيل، سرعان ما تكبر وتصير في حجم أي كبد لإنسان، غادرت أنت الى الصين واجلس أنا في انتظار ان يدعوني مستشفى كرومويل في لندن لانتزاع كبدي المريض ووضع كبد جديد مكانه، لكن إرادة الله حملتك الى سمائه وتركت جسدك الجميل محاطاً بأناس لم تعرفهم ووجوه لم تألفها، بينما قلبك الصيني لا يتحرك.
سمعت أولاً أن العملية نجحت، وكان أول ما خطر ببالي ما اذا كان علاء قد طلب من الجراحين ان يفرغوا قلبك المريض ويعيدوا ترتيب ما افرغوا في قلبك الجديد، إذ إن فتى مثل علاء لم يكن يسمح أن تظل وراءه في الصين محبته لوطنه ومحبته لأمته ومحبته لأسرته ومحبته لزملائه وأصدقائه ومحبته للكرك التي حملناها عشقاً عوضنا عن قسوة الحياه وقسوة الفقر وقسوة الجوع ومحبته لقريته (الحسينية) التي يجمعني وإياك على محبتها بحر من العواطف ونهر من الذكريات.
من المؤكد يا علاء ان آخر ما أغمضت عينيك عليه على سرير الجراحين هو وجه ابنك فارس، وآخر ما أغمضت عينيك عليه قبل أن تودع روحك جسدك هو كل الوطن الذي أحببناه وكل الناس الذين كنا نفرح لأفراحهم الصغيرة ونتوجع لمعاناتهم التي لم تأخذ ذرة من إيمانهم أو ذرة من الثقة في إن الغد سيكون جميلاً يا علاء.
لعلك تعرف أولا تعرف إنني بدأت حياتي العملية في مدرسة الحسينية، وربما كان والدك الحزين صبره الله على المصاب واحداً من تلاميذي الصغار، الذين كنت وزملائي في المدرسة ننتظر وصولهم صباحاً على أقدام اتعبها الطريق وليس في حافلات سفر مكيفة ومجهزة لنعومة أعمارهم، وكان كلما وصل تلميذ الى ساحة المدرسة ندخله غرفة المدرسين ونجلسه قرب مدفأة الكاز، لعل الدفء يجفف ثيابه البسيطة الرقيقة التي أغرقها ماء المطر، ويعيد الى وجهه لونه الحنطي بعد ان ازرق من تحت ضربات الثلج وصقيع الريح وبعد ان غطى الطين حذاءه وقدميه، حتي ليجد صعوبة في ان ينتزعهما من الأرض الطيبة ليواصل السير نحو المدرسة.
كان أولئك التلاميذ يا علاء يأتون من القرى القريبة و البعيدة لمبنى المدرسة، من ام حماط وسول ورجم الصخري ودليقة وفي الصيف من مضارب أهلهم الذين خرجوا بأغنامهم للرعي وأدركت آنذاك لماذا وضعوا مبنى المدرسة وسط هذه القرى وليس في واحدة منها، اذ حتى لا تغضب الحكومة قرية، اختارت للمدرسة الموقع الذي قضيت فيه عامين دراسيين.
هل كان والدك يا علاء واحداً من تلاميذي؟ وهل كنا نتعامل مع هؤلاء التلاميذ الا كطيور الجنة وفرح الحياة، حتى كان منظراً مألوفاً ان ترى المعلمين يبرون أقلام تلاميذهم ويرتبون لهم كتبهم ودفاترهم في حقائب خيطت من القماش، وكنا حتى ننظف أنوفهم ونمسح الطين عن أقدامهم وأحذيتهم البسيطة، واذكر يا علاء ان واحداً لم يتأخر عن الحضور الى المدرسة حتى لو كانت الثلوج تغطي الطريق، والأمطار تغسل الأرض، والريح تعبث بمناديلهم بل وأحياناً تنتزعها عن رؤوسهم وتقذف بها بعيداً او قريباً فوق الطين وتحت المطر.
لم التق بك وربما كانت هذه رحمة بي من الله الا أعرفك عن قرب فأزداد محبة لك وسعادة فيك، بعد ان اكلت السنوات العجاف العمر، واقسم انني كنت كلما قرأت مقالة لك، خاصة مما تورد فيها من الصور الساخرة شعرت بسبب جديد حتى احبك اكثر وأتمنى اللقاء بك.
كنت دائما أيها العزيز علاء أضع يدي على قلبي كلما رأيت زميلاً او زميلة يملك هذه القدرة على قول ما يستطيع قوله، كنت وما أزال أخاف عليك وعلى جيلك القادم من ان يتم قهركم فلا تجدون الحد الأدنى من الشجاعة للتعبير عن مواقفهم، وكنت وما أزال أخاف على أن تحاصركم قوانين وأنظمة ومسؤولون وجو عام يفرغكم من انتمائكم الوطني والقومي فتكون مبرراتكم للقتال بالكلمة شبه معدومة ويحاصرهم اليأس والإحباط كنت وما أزال أخاف عليكم من أن يحاصركم اليأس والإحباط، كنت وما أزال أخاف عليكم من ان تتعلموا شيئاً من هؤلاء الذي يطلون عليكم عبر صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون ويحاولون تعليم من لم يتعلم كيف يخون أطفاله وأبناءه، وكيف يخون ارث الآباء والأجداد، وكنت اخاف وما ازال من ان تتعلموا منا انتم الجيل الجديد ونحن الجيل القديم النفاق والمداهنه والإفساد والخوف وفقدان الشجاعة وفقدان القدرة على مواجهة ما يتهدد الوطن ويتربص بالأمة.
كان يستفزني وما يزال هذا الوصف الذي يطلقونه على القلب وانه مضخة للدم، انه آبار وبحار من المحبة والعشق يرسل اصدق مشاعره لكل من حوله ، وهو حقل الخير وبيت الشعر ونافذة البيت والبوم الصور التي اثق لكل ما سمعت عنك وما قرأت لك، انك كنت تعلق على جدران قلبك صور الذين أحببتهم وأحبوك، ولم تنزع مرة واحدة عن جدار صورة واحدة لا تعرف كيف تحب وكيف تعطي وكيف تبتسم وكيف تركض على هذه الأرض حتى قطعت قبل بلوغك الثلاثين كل هذه الأرض ثم رحلت، رغم ان الناس يحتاجون الى سبعين أو ثمانين أو مائة عام لقطع كل المسافات.
أعرف ايها العزيز علاء انك ستدخل عمان للمرة الأخيرة من المطار وتلتفت خلفك لتودع هذه الحبيبة الغالية، وانك ستدخل الكرك بابتسامة واسعة وستمر بمؤتة بشعور عميق من الفخر والأعتزاز، وتلقي تحتيك الدافئة المؤمنة على الصحابة في المزار ثم تمضي الى قطعة ارض صغيرة من الحسينية حيث تحاول ان ترفع يدك الدافئة فلا تستطيع ثم تأخذ مكانك الذي اخذه من قبلك بشر بلا عدد وسيأخذه من بعدك بشر بلا عدد.
وأتساءل في الختام: اية حكمة كانت لآبائنا واجدادنا الذين كلما سمعوا برحيل عريس عربي مثلك قالوا ( هذا مش ابن عيشة) وانت ايها الراحل ( لست ابن عيشة ) فعلى روحك السلام ولكل من شعر بمرارة فقدانك اصدق العزاء ودعوات الصبر.
kmahadin@hotmail.com