مساء الخميس كانت جرش على موعد مع تجدد شعلتها لتذكرنا بتاريخها وعظمة الذين اشادوا بنيانها...
على بعد 45 كم شمال عمان كان الاردنيون يحتشدون الى جانب التمثيل الرمزي للثقافات العالمية التي حضر فنانوها وشعراء وسفراء منها..
جراسا التي شيدت في القرن الرابع قبل الميلاد، وجاء اسمها كتحريف للاسم الذي عرفت به قبل اليونانيين جرشو "المكان كثيف الاشجار" حافظت على معالمها التاريخية... التي لم تندثر رغم تبدل الايام والدول والرجال الذين عايشتهم وعايشوها.
فمن الاسكندر الى هادرين الى البيزنطيين فالفرس فالدولة الاسلامية الى العثمانيين الذين الغوا اسمها لفترة بعد ان ضموها الى ساكب لتعود مرة اخرى الى اسمها التاريخي.. وجرش هي جرش ايقونة فرح تضيء فضاءاتها قناديل الزيت واقمار الربيع والصيف الملتهب.
لاكثر من ثلاثين عاما كانت المدينة العتيقة ملتقى للثقافات الانسانية يقف على مسارحها المبدعون العرب والعجم والبربر من فيروز الى محمد عبده ونجاة الصغيرة ومن وردة الجزائرية الى ماجدة الرومي وشيرين.. ومن صابر الرباعي الى راغب علامة.. اليسا وعمرو دياب ولطيفة وميادة الحناوي.. نجحت المدينة في تحقيق احلام العديد من الموهوبين ممن اصبحوا نجوما في عالم الفن والغناء كاحلام وكاظم الساهر..
مازالت جرش تختزل في حجارتها شيئاً من اصوات وديع الصافي وكلمات عبدالرحمن الابنودي وحماسة سميح القاسم ورائحة قهوة محمود درويش وسنابك خيل حبيب الزيودي...
جرش والمشاركة في مهرجانها كان وما زال طموح كل فنان بدأ رحلته في عالم الشهرة والانتشار ايا كان مولده وموطنه وانتماؤه؛ فعلى مدار العقود الثلاثة اطل على جمهور مهرجانها نجوم للطرب والشعر والموسيقى من مختلف المشارب والثقافات ينثرون حبهم وقصائدهم ورقصاتهم ويتركون صدى الحانهم تتمرجح بين اعمدتها تعبيرا عن تعلق الامم بتراثها الانساني الذي يتجاوز حدود السياسة والعرق والدين.
في هذا العام جاء افتتاح المهرجان الذي سيستمر لاسبوعين تعبيرا عن اصرار الاردن على انحيازه للحياة وقيم الحب والخير والفن والجمال في محيط يعج بالخلاف والكراهية وصور الموت ورائحة البارود وغبار الدمار..
في الوقت الذي تتعرض فيه تدمر للدمار وتنشغل معاول الهدم في محو ذاكرة الموصل وتتساقط براميل البارود على قلعة حلب وتتفجر السيارات المفخخة في بغداد وصنعاء.. تتعالى ألحان جرش وينبعث منها صوت جميل يردد "علي صوتك بالغنا.. لسا الاغاني ممكنة"... في المشرق العربي الاغاني ليست ممكنة إلا في عمان وبيروت ... لكنها اجمل بكثير في جرش.
الفنان الاردني هو وقود الشعلة التي انطلقت في ميادين جرش مساء الخميس.. فتحت لهيب الشمس الحارق انطلقت حناجر المغنين الثمانية والرواة عبير عيسى وهشام هنيدي.. لتشدوا بكلمات الشاعر محمد الحنيطي والحان ايمن عبدالله "هذا الحمى".. ولا عنوان لمغناة يعبر عن جرش مثل العنوان الذي حملته المغناة.
لم تحل اصابة الفنانة لندا حجازي ولا اعياء غادة عباسي وسليمان عبود وانهاك بقية الفنانين دون تقديم عرضهم الذي امتع الحضور ونقل رسالة بلدهم للعالم، فتحية لهؤلاء النجوم الذين سطعوا في سماء جرش اللاهب يوم الخميس بفضل ايمانهم واصرارهم على انجاح حفل الافتتاح وتحية لكل الذين اثروا ان يكونوا جزءاً من معسكر الفرح في عالم يحفه الموت.