يعيش العرب حاليا في متاهة معقدة وطويلة ومتشابكة، ولعل فقدان الشعور بالهوية هو اخطر مزالق هذه المتاهة، وهو شعور حول العرب الى "اعراب"، وفصم الحالة النفسية والشعورية والمصلحية للامة بددا، على قاعدة "احنا شعب .. وانتو شعب .. الكو رب والنا رب"، وهي الاغنية الشهيرة التي تغنى بها مؤيدو السيسي.
يبدو ان هذه القاعدة لا تقف عند حدود مصر لكنها تتعدى ذلك الى الوطن العربي او العالم العربي، الذي يعتبره البعض مجرد "عالم طوباوي خيالي" لا وجود له على ارض الواقع، وانه لا يوجد ما يربط هؤلاء "الاعراب" سوى بعض البرامج التلفزيونية الفارغة من اي مضمون ثقافي عربي مثل "اراب غوت تالنت" و "ذي فويس" وهي اسماء لبرامج غربية اصلا جرى ترجمتها الى العربية اصلا.
هذه المتاهة تضع العرب امام اسئلة وجودية حقيقية: هل نحن امة عربية ام امم عربية؟ هل هناك امة عربية اصلا؟ ما هو مفهوم هذه الامة وماهي الروابط التي تجمعها؟ هل هناك وطن عربي وهل هناك عالم عربي؟ هل هناك ثقافة عربية؟
تبدو هذه الاسئلة استفزازية الى درجة كبيرة، لانها تنكأ جراحا عميقة، مما يؤدي الى نزف دماء كثيرة، نحن نراها ليل نهار على امتداد الجغرافيا التي يسكن فيها العرب من المحيط الى الخليج، لكنها اسئلة ضرورية لاكتشاف الذات ولمعرفة من نحن والى اين نسير، وكيف سنكون في مستقبل الايام.
المنطقة التي يسكنها العرب من المحيط الى الخليج يطلق عليها "الشرق الاوسط"، وعليه فان الواقعية السياسية العالمية وهي "واقعية غربية بامتياز" لا تعترف بوجود "عالم عربي او وطن عربي" ولا حتى منطقة عربية، فسكان هذه المنطقة ينتسبون الى جهة جغرافية تدعى "الشرق" ولتمييزه عن الصين والهند يطلق علية " الاوسط" وعند جمع الكلمتين مع بعضهما البعض يصبح العالم العربي "الشرق الاوسط"، وهو مصطلح نحته ضابط في الجيش البريطاني الاستعماري بداية القرن الماضي، واستخدام لغايات عسكرية، ومع ذلك فان الغرب بشقه الاوروبي والامريكي وضعا حدودا مختلفة لهذا "الشرق الاوسط"، احيانا من افغانستان الى مصر، واحيانا من ايران الى المغرب، وللخروج من هذا المازق في التعريف تم نحت مصطلح جديد وهو " الشرق الاوسط وشمال افريقيا" الذي يضم كل المنطقة التي يسكنها العرب، مع اضافة امم اخرى غير عربية مثل افغانستان وايران واحيانا تركيا، لكيلا يكون للعرب منطقة خاصة بهم معترف بها كوحدة موضوعية يمكن ان يطلق عليها "العالم العربي او الوطن العربي".
هذه التكوين الجغرافي المستحدث "الشرق الاوسط" صنع لكي يستوعب "اسرائيل" في المكان، وهذا الكيان الاسرائيلي ليس عربيا، وبالتالي لا يجوز ان يطلق على المنطقة الموجود عليها "وطن عربي او عالم" لان معنى هذه التسمية هي نزع الشرعية المكانية عن هذا الكيان.
ولتاكيد هذه الوقائع الجغرافية لنفي "العرب والعروبة" عن المكان، عملت القوى الاستعمارية وعلى راسها بريطانيا وفرنسا، على تقسيم العالم العربي الى وحدات "شرق اوسطية" بمخططات "سايكس – بيكو" التي رسمت حدودا بين هذه الوحدات الشرق اوسطية والتي اطلق عليها "دول" تم زرع كيان لليهود بينها بعد ان تم استعمار فلسطين وسلبها وتشريد سكانها، واحلال اليهود فيها لتتحول من فلسطين الى "اسرائيل"، وبهذا يكون المشروع الاوروبي المدعوم امريكيا لاحقا قد اكتمل من الناحية العملية.
لكن هذا المشروع الذي ادخل العرب في متاهة كبيرة، لم يقف عن حدود التقسيم الجغرافي بل تعداه الى التقسيم الشعوري والنفسي، وخلق هويات فرعية هامشية على حساب الهوية العربية الاصلية، وصار الانتماء الى الهويات الفرعية اهم من الانتماء الى الهوية العربية الشاملة بمعناها الكبير الذي يحمل في طياته مفهوم "الامة العربية"، وتحولت الامة الى شعوب والعرب الى اعراب بعد ان تحولت الدولة الى دول. ودخلت الامة في حالة من البحث عن هويات جزئية تنتمي الى الاقليات الدينية والعرقية، الى درجة ان دولة عربية مركزية مثل العراق تحولت واقعيا الى 3 دول، عربية شيعية في الجنوب وعربية سنية في الوسط وكردية في الشمال، وهكذا تحول العراق من احد اعمدة الحضارة العربية الاسلامية الى اشلاء تسمى دول، ولو انه لم يعلن عنها رسميا. وبدل البحث عن القواسم المشتركة لابناء الامة الواحدة والشعب الواحدة، بحث الجميع عن "الفواصم بدل القواسم"، بما يفصم الفكر والشعور والدين والثقافة والارض. وادخل الامة في حالة من الاحتراب البيني العنيف الذي نعيشه واقعا هذه الايام.