من أهم معاني العيد أنه يشكل تظاهرة مجتمعية عامة، تنخرط فيها الأمة كلها بكل مكوناتها وشرائحها وطوائفها ومذاهبها، تعبر فيها عن كل ما تختزنه في سجلها الحضاري؛ من معاني القوة الراسخة المستمدة من قيم الإيمان والوحدة والتعاون، والاستعلاء على الجراح، ومقاومة عوامل الفرقة والتفكك.
العيد يمثل انطلاقة جماعية مملوءة بالعزم والتفاؤل، والهمة العالية المستمدة من الطاقة الروحانية الهائلة المتحصلة لديها من خلال شهر الصوم، حيث أنها استطاعت الارتقاء إلى معارج السمو ونور البصيرة، ومدارات العمل الجاد المتجرد من النظرة القاصرة ومن كل عوامل الضعف والانحطاط.
العيد يوم البهجة والحبور من خلال الانخراط الجماعي المشترك في مسار البحث عن إسعاد الآخرين، وبذل الجهد في إدخال السرور على البائسين وإغناء أهل الحاجة عن السؤال وذل المسكنة، وتحريرهم من رق الفقر والعجز، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم «أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم».
المضمون العميق لثقافة العيد يتجلى في القدرة على إظهار المهارة الفردية والجماعية في تمتين الأواصر الاجتماعية، وتعزيز الروابط الوحدوية بين أفراد المجتمع وعائلاته ومكوناته، من خلال الكلمة الطيبة، والسلوك السليم، وإشاعة قيم التسامح والتغافر والعفو والإحسان والصفح الجميل.
في هذا اليوم يبرز مظهر المصافحة وتبادل عبارات الود بقوة، وإطلاق الأمنيات الجميلة، والدعاء والابتهال إلى الله بتغيير الأحوال السيئة، وأن ينعم علينا بزوال الضيق والتوتر، ولا يتحقق ذلك إلّا بالجهود الجماعية المبذولة، والشعور المشترك ،وتقديم خطوة إلى الأمام من جميع الأطراف بلا استثناء.
العيد الحقيقي لدى أصحاب النفوس الكبيرة ولدى أصحاب المروءة وأولي النعمة وأهل القدرة والبسطة ليس في البحث عن إسعاد الذات، والاستغراق في دائرة النفس الضيقة ،من خلال الانفاق على الرحلات والفنادق والسفر والمطاعم الكبرى، وإنما ينبغي أن يكون العيد مناسبة بناء الفرحة العامة المشتركة للمجتع كله، حتى لا يبقى بيننا بائس ولا شقي ولا محروم .
العيد شعيرة جماعية وليس فردية، وينبغي أن يكون رمضان دورة للأمة كلها في التدريب الجماعي على تمثل هذا المعنى، من خلال تعويد النفس على الجوع والتقشف، وحرمانها من الشهوات والحد من استغراقها في الأنانية الفردية المقيتة.
عندما لا نستطيع تحرير أنفسنا من إسار الفردية الضيق، ولم نخرج من إطار الأنانية والشح؛ فهي علامة على عدم القدرة على تمثل مقاصد شهر الصيام ومعانيه ومضامينه العميقة، التي تجعلنا نستشعر الم المتألمين، ووجع الموجوعين، وأصحاب الجراح والتشرد وفقدان الأوطان.
رمضان والعيد مناسبة لإعادة بناء الإنسان لنفسه وترميم ذاته على طريق إعادة بناء المجتمع، وبناء الأمة، ولا يكون البناء إلّا في عالم القيم، وفي عالم المعاني والأفكار، التي تظهر في عالم الشهود أفعالاً وسلوكاً وتطبيقاً، وتفاعلاً مع الحياة وتعاملاً مع الآخر.
الدستور