أكثرُ من 25 عاماً بدّدتُها في الصحافة، وهي مهنةٌ لا أهميّةَ لها، ولا هيبةَ، وربما لا ضرورةَ في عالم العرب، إلا للمدائح، والثناء الدائم على الأكاذيب، وأحياناً تصنيعها وتسويقها لِلنَّاس الذين يشترون بضاعة مغشوشة، مع علمهم الأكيد بذلك.
لا بأس. هذا رزقنا. ثمَّ انها مهنةُ من لا مهنةَ له. أعرفُ عريفاً سابقاً في احد الاجهزة ، تجاوزَ المرحلة الإعدادية بالكاد، فأصبحَ رئيسَ تحرير الصحيفة الأولى في بلاده، وزاملتُ رجلاً، أصبحَ مدير تحرير، ثم رئيسَ تحرير، وكان متأكداً أنّ البرازيل من الدول الإسكندنافية. ألمْ يردْ في الميثيولوجيا: "لنرزقنَّ من لا حيلةَ له، ليحتارَ كلُّ ذي حيلة".
لا تضحكوا قَبْلَ أنْ أروي قصةَ رجلٍ من بلدي. في العام 1996، كنتُ مسؤولاً عن قسم المحافظات في "الرأي" الأردنية، وهذه صحيفةٌ حكومية، لم يتعيّنْ فيها أحدٌ إلا بواسطة، بمن فيهم أنا. جاءني رجلٌ من محافظتي في الجنوب، بعد اتصالٍ من صديقي ابن عمه، وعَرَضَ أنْ يُقدّمَ خدماته، كمراسلٍ للصحيفة في منطقته. ثمّ سألتهُ عن مؤهلاته وخبراته، ليُجيبَ بأنه متقاعدٌ ، لكنه متحمّسٌ للعمل، وتعهدَ لي بـ"بياض الوجه". قلتُ: دعنا نُجرِّبكَ بتقريرٍ إخباريٍّ من منطقتكَ، يُظهرُ قدراتك في الكتابة. ابتلعَ الرجلُ ريقاً يابسةً، وارتشفَ قهوةَ الضيافة، وهمسَ أنه يُريدني في "كلمتين.. بيني وبينه". قلتُ: طبعاً، وأنا أرافقُهُ إلى المصعد. وضعَ الرجلُ سجائره في جيبه، واقتربَ من أذني، وأسرَّ لي بأنَّ لديه مشكلةً بسيطة، فهو "لا يقرأُ، ولا يكتبُ. إنه رجلٌ أميٌّ" ببساطةٍ وتواضع. وأضافَ ليُبددَّ قلقي "لكنّ المسألةَ محلولةٌ بإذن الله تعالى، فأحمدُ شقيقي، معلّمُ لغةٍ عربية، وسأروي له معاناة النَّاس، وهو يكتبها، وأرسلها لك".
نعم. إنّها "مشكلةٌ بسيطةٌ فعلاً". ما حاجةُ الصحافة في الوطنِ العربيِّ إلى قراءةٍ وكتابةٍ. إنها حيلتكَ يا رجل. وماذا نفعلُ نَحْنُ أعضاء نقابات الصحافيين، سوى أننا نحتالُ على أمثالكَ، عن أوطانٍ مثاليّة، وزعماء يتعلّمُ من كفاءتهم روزفلت وتشرشل وغاندي. تعالَ يا رجل. فهذه المهنةُ العربيةُ ليسَ من شروطها أنْ تقرأَ وتكتبَ. كلما كُنتَ أميّاً وغافلاً وفهلويّاً، كلّما أصبحتَ صحافيّّاً عربيّاً، يشقُّ الغبارَ، كفارسٍ احتالَ على السباق، واختبأ عِنْدَ صخرة في آخر المضمار، ففازَ، وصفّقَ له القائدُ في المنصّةِ، وهتفت الجماهير.
هذه مهنتي: سيداتي، وسادتي. مهنةُ المسكوت عنه، مهنةُ الشيطان الأخرس في دنيا العرب. هل قلتُ: دنيا، وقلتُ: عرباً. نعم. أنا صحافيٌّ عربيٌّ على أيةِ حال. أقولُ التناقضات، وأضعُ على وجهها كثيراً من مساحيق التجميل. أنا، إنْ شئتم متخصّصٌ في المكياج، وأكتبُ لأجل راتبي، ورسوم المدارس، وفواتير الكهرباء والمياه. لستُ فدائياً لأكتبَ لكم الصواب. أنتم تعرفونه أكثر مني. أنا مثلكم يحتالُ ليعيش. ولا يُحبُّ أنْ يكونَ شهيداً. أنا محضُ رجلٍ، يسعى لعشاءٍ منزليٍّ، بالزيتِ والزعترِ والزيتون.
شبهُ صحافيّ، مثل شبه زعيم، مثل شبه معارض، مثل شبه بطلٍ شعبيّ. أمةُ الأشباه والأشباح. أمةٌ تنقرضُ، كأنها سلالةُ لافقاريات من عصور الجليد، تحوّلت تالياً إلى مستحاثاتٍ، يحتارُ فيها خبراءُ الأنثروبولوجيا.
25 عاماً في الصحافة. عملتُ في صحفٍ عربيةٍ محليةٍ ودولية. وكتبتُ في مواقع ومنصاتٍ رقمية. وزرعتُ كثيراً من العنب. كنتُ أودُّ عنقوداً، أو كأسَ نبيذ، ولم أجنِ سوى الشوك. ذَلِكَ انحرافٌ في مَثَلٍ عربي قديم "إِنَّكَ لا تجني من الشوكِ العنب".
ماذا لو كنتُ نجّاراً، مثلاً. لا أحزنُ إلا على أشجار الغابات تحت قسوة منشاري. أدقُّ المساميرَ في الزوايا، وأهيئُ للعشاق مقاعدَ في الحدائق العامة. حين أتجلّى أصنعُ مكتبةً، برفوفٍ تلائم مجلداً لابن المنظور، أو ابن عربيّ، أو أعمالاً كاملةً لمحمود درويش. وبعد نبيذٍ غامرٍ أرسمُ بالخشب الورديّ خزانةً للقوارير والأقداح والأطباق البيضاء.
ما رأيكم أنْ أصمّمَ مُسْنَداً لبيع الصحف في أكشاك الشوارع. سأشترطُ على زبائني أنْ تُعْرَضَ عليه الصحفُ في امستردام، لندن، جنيف، طوكيو، نيويورك، أو برلين. لا أريدُ نواكشوط، والخرطوم، ومدناً أخرى أجبنُ عن ذكرها. لديّ قائمة بمدنٍ وبلادٍ، لا مشكلةَ بسيطةً لديها في "القراءة والكتابة"، ولا عداوةَ لها مع مهنتي. ولا مع خبز أولادي ..