روسيا .. والخريطة الجيوسياسية الكونية الجديدة
د.زهير أبو فارس
08-07-2015 02:06 PM
بات الآن واضحاً وثابتاً أن توتر العلاقات الروسية مع الغرب، ودول حلف الناتو تحديداً، ليس حالة تكتيكية طارئة ومؤقتة، كما هي حال تقلبات السياسات والمواقف بين الدول على مستوى الأقاليم والعالم عموماً. صحيح أن التاريخ شهد مراحل ساخنة كادت أن، تتحول الى مواجهات خطيرة تهدد السلم العالمي ومعادلة توازن الرعب الذي ساد، ولا يزال، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بين الغرب والاتحاد السوفيتي. لكن الصحيح أيضاً هو انهيار الأخير، وتفكك دوله في بداية العقد الأخير من القرن الماضي، كان قد أغرى، على ما يبدو، دول الغرب، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة، لانتهاج سياسة كونية، باعتبارها القطب الأوحد في عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة، التي خرجت منها منتصرة، جرّاء الانهيار السوفيتي المدوي. وقد انعكس هذا الشعور من خلال ممارسات وسياسات مشهودة على أرض الواقع في اوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.
لكن، وفي المقابل، فإن الروس، وبعد أن نجحوا في احتواء صدمة الانهيار السوفييتي وتداعياتها خلال فترة التسعينات، أفاقوا على عالم أحادي القطب، تتناقض سياساته، بشكل جذري، مع مصالحهم الاستراتيجية، بل أيقنوا بأن ذلك يشكل خطراً وجودياً على كيانهم في الاتحاد الروسي، الذي أصبح مهدداً بالتفتت والضعف. كما ترسخت قناعاتهم بالتحديات والأخطار الهائلة التي تواجههم، إثر فشل محاولاتهم بالاندماج في نظام عالمي جديد، يقوم على أسس راسخة من التعاون المتكافئ، والاحترام المتبادل لمصالح كافة الشركاء، دون الاضرار بالسيادة والأمن القومي.
لقد اعتبر الروس أن الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، تحركهم سياسة الهيمنة على العالم، دون الالتفات الى مصالح روسيا والقوى الكبرى، والتجمعات الاقليمية التي أخذت تتشكل على الساحة العالمية. وهو ما بدى جلياً في اصرار الناتو على المضي قدماً في مبادرة الدفاع الاستراتيجي المثيرة للجدل، والتي أعلن عنها للمرة الأولى من قبل الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان عام 1983، وتم تبنّيها من قبل الولايات المتحدة الى عام 1993. وما زاد من حساسية الوضع محاولات الغرب الأخيرة التقدم العسكري باتجاه الحدود الروسية، ونشر المعدات والقوات في اطار مبادرة الدفاع إيّاها. وأخيراً جاءت الأزمة الأوكرانية وتداعياتها الأوروبية لتزيد الوضع المأزوم تعقيداً.
وإزاء هذا الواقع الجديد، والمفتوح على كافة الاحتمالات والتعقيدات، آنياً ومستقبلاً، وجد الروس أنفسهم أمام ضرورة اجراء تغييرات جذرية في استراتيجياتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية. وهذا ما اجتمع من أجله مجلس الأمن الروسي قبل أيام (3/تموز 2015) تحت عنوان: "تعديل استراتيجية الأمن القومي الروسي لتتناسب مع التحديات والأخطار التي تواجه البلاد"..، حيث ذهب الزعيم الروسي بوتين الى أن "أسباب الضغط على روسيا مفهومة، لأننا نتبع نهجاً مستقلاً في السياسة الداخلية والخارجية، ولا نتاجر بسيادتنا، وهذا لا يروق للبعض".
كما اعتبر أن تمديد العقوبات ضد روسيا، والتلويح بتشديدها من قبل الولايات المتحدة، يؤشر الى أن ما اسماهم "بالمنافسين الجيوسياسيين"، لا ينوون تغيير نهجهم غير الودي تجاه بلاده، بل ويستهدفون إضعاف الاقتصاد، وزرع الفتنة، واثارة الفوضى والاضطراب في المجتمع الروسي، من أجل تغيير القيادة الروسية.
فتجارب ما عرف "بالثورات الملونة" ما زالت ماثلة أمام الروس، ويعرفون نتائجها وتداعياتها.
وفي هذا السياق، يمكن الاشارة الى أن الروس يعون جيداً أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه بلادهم تغلب عليها روح المواجهة، وعليه، فإنهم – على ما يبدو- مُصرين على تعديل استراتيجيتهم الأمنية، وبخاصة في مواجهة التحديات والأخطار العسكرية الجديدة التي أعقبت أحداث "الربيع العربي"، وتلك المتعلقة باوروبا، إثر تداعيات الأزمة الأوكرانية، بما فيها محاولات الناتو التقدم شرقاً باتجاه روسيا، وعلى مقربة مباشرة من حدودها وفضائها الجغرافي والسياسي. ولم يكن الروس مقتنعين أصلاً، بالرواية الغربية والأمريكية تحديداً، في أن نشر عناصر منظومة الدفاع الاستراتيجي في أوروبا، وقرب حدودهم، موجهة لدرء الخطر الايراني أو الدول التي تحكمها "قيادات غير رشيدة" قد تهدد العالم والولايات المتحدة(!)
وأخيراً، فقد أيقن الروس، وبصورة لا تدع مجالاً للشك، بأن مواجهتهم متعددة الجوانب مع الغرب والولايات المتحدة، تستدعي تغييرات جذرية في استراتيجياتهم الدفاعية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والاعلامية، والعمل لتشكيل خريطة جيوسياسية كونية جديدة، تضمن اعادة التوازن للنظام العالمي الجديد، في إطار انهاء أحادية القطبية التي لم تعد مقبولة لمعظم القوى الدولية الفاعلة. وهذا يشمل بالضرورة العديد من كيانات الفضاء السوفيتي السابق (رابطة الدول المستقلة)، والتجمعات والمنظمات الاقليمية والدولية الجديدة، كمجموعة بريكس (البرازيل،روسيا، الهند، الصين، جنوب افريقيا) ومنظمة شنغهاي للتعاون وغيرها، والتي يجتمع قادتها اليوم (اوفا/ روسيا). ولكن، ومع كل ما تشهده الساحة الدولية من أحداث وتحولات جيوسياسية وأمنية، فإن الشعوب تأمل أن تتمخض هذه الحالة عن ولادة عالم جديد متعدد الأقطاب، يسوده الامن والسلام، على أسس قيم الحرية، والعدل، والقانون والأمن الدوليين، والتعاون المتكافئ، واحترام الحقوق والمصالح لكافة الدول والشعوب. الدستور
Dr.zuhair@windowslive.com