بيروت اليوم ليس كبيروت الأمس ، فهي اليوم تعود الى زمن حَسِبتْ أنها دفنته الى الأبد، فذكريات الحرب الأهلية ورائحة القتل وأصوات الرصاص ودوي الإنفجارت هو ما يشكل مزاج بيروت اليوم وحراكها المرتبك .
ومن غيرالمعقول أن ننظر الى مايحدث من انفلات واحتراب بمعزل عن الإرهاصات السابقة له ، وكذلك ليس بعيدا عن معادلات الاستقطاب الدولي لهذا الطرف أو ذاك ، وارتباطات بعض الاطراف بمشاريع اقليمية وملفات ساخنة يندرج الوضع اللبناني فيها كورقة من أوراق التفاوض والضغط .
إن لبنان ككيان مستقل استطاع لفترات طويلة أن يعيش متماسكا ، بالرغم من أن ذلك مبنياً على محاصصةٍ طائفية فريدةٍ من نوعها ، وقد سعى كل طرفٍ الى الحفاظ على هذه الفسيفساء السياسية في اطار من التفاهمات التي لا تنجح الا في لبنان ، ولم تفشل أو تنكسر هذه القاعدة أو تحيد العربة عن السكة الا في الأحوال التي زُجَّ بها في غير مسارها ،وربْطَها بقطار مشاريع وأحلام الدول الإقليمية من خلال علاقات متعددة ،مرة تحت غطاء الديمقراطية ، وتارة تحت ستار الأيدلوجيا ، وتارة ثالثة تحت أكثر حاجات الإنسان العربي استفزازاً وهي مقاومة العدو الصهيوني.
بيروت اليوم يحتلها حزب الله وهي حقيقة لا تخطئها العين ، والسلاح الذي كان يفترض أنه في مواقع ذات طابع استراتيجي للوقوف في وجه أي مؤامرة اسرائيلية ، يطل علينا برأسه بعد دقائق قليلة في شوارع بيروت ومناطق أخرى في لبنان ، ويمهد له الطرقات ويعطيه شرعية القتل خطاب أمين حزب الله السيد حسن نصرالله ، وعلى أنغام معزوفة السيد الثورية تم قطع الطرقات واستبيحت المؤسسات الرسمية والإعلامية ودخلت بيروت زمن الرصاص والدخان ليكون الاحتلال الثاني لها بعد الاحتلال الأول من قبل العدو الصهيوني في العام 1982.
إن ما يحدث اليوم يجعلنا نعود قليلا الى حرب تموز في عام 2006 ،والتي كنَّا خلال مجريات أحداثها في ابتهاج لإهتزاز منظومة الأمن التي طالما أثارت في اسرائيل مشاعر الغطرسة ، والتي رأينا أثارها في كل مناطق فلسطين دون استثناء ، ولكن السؤال هل كانت الحرب بمجمل أهدافها هي لأجل تحرير الأرض اللبنانية مقدمة للتحرير الأكبر للأرض العربية وضرب المشروع الصهيوأمريكي ؟ أم أن هناك أهدافا أساسية لقيام هذه الحرب ولا بأس معها من تبنِّي بعض الأهداف الثانوية لجذب وتجييش العواطف التي تبحث عن نصر بأي شكل .
والمدقق بعناية في العلاقة المصيرية بين حزب الله كحزب طائفي - كما يطرح نفسه - وبين ايران ومشاريعها السياسية والتوسعية في المنطقة ، سيجد أن هناك دوافعا كثيرة لقيام تلك الحرب ، وأهمها إشعار امريكا أن المنطقة تشتعل ويخبو نارها بقرار ايراني ، وثانيها أن الوجود الأمريكي بعيد المدى في المنطقة سيكون مهددا في أي لحظة ، إما من ايران مباشرة أو من خلال أذرعها في المنطقة ، ولكن ايران من زاوية أخرى لا ترى ضيراً من التنازل عما تدَّعيه من عداء لأمريكا ، إذا اعترفتْ الأخيرة بدورها في اعادة تشكيل الاقليم بما يخدم الخطط والمصالح الاستراتيجية لدولتها المذهبية الآنية منها والمستقبلية .
قد يحلو للبعض أن يختزل النضال الفلسطيني والجهد المقاوم على الأرض ، وأن يحصره في هذه الأونة في ( كبسولة ) اسمها حزب الله ، ولأن الأمر غير ذلك ، فعلينا أن نكون أكثر إنصافا للمقاومة الفلسطينية ،بدءا من اللحظات الأولى لوعد بلفور المشؤوم وحتى اللحظة ، ومن المهم أن نستذكر كيف اهتز الأمن الداخلي لإسرائيل مرارا وتكرارا تحت ضربات المقاومة ، وكيف حتى لحظة قريبة لم يكن يأمن أي صهيوني بستخدام مرافق الحياة العادية ، والتي حرم الشعب الفلسطيني من أبسطها ، لم يكن يأمن ذلك لشعوره أن المقاومين الذين ليس لهم أجندات الا تحرير فلسطين ، يترصدونه على كل شبر وفي كل زاوية ، فالرعب الذي زرعه الشعب الفلسطيني بكل فئاته ومشاربه الفكرية والتنظيمية في العقل الاسرائيلي أضعاف ما يتمترس خلفه اصدقاء ايران وحزب الله.
إن بيروت اليوم أُلبستْ العمامة ، ودُفعتْ قسراً لتسبِّح بحمْدِ دولة الولي الفقيه وليس بعيداً أن تنطلق الدعوات بأن يتم تعديل الدستور اللبناني ، ليتضمن مادة لإلغاء منصب الرئيس ورئيس الوزراء ، والإكتفاء بتعيين ايران لأحد رموزها وكيلا شرعيا للإمام الخامنئي ، ليدير البلاد ويصرِّف شؤون العباد ، أو في أحسن الأحوال تعيين رئيساً للجمهورية ورئيساً للوزراء منزوعيْ الدسم الا من الدسم الايراني الذي أصبح يفيض في أكثر من منطقة في الفضاء العربي.