" أما آن ل " سهم " المؤلفة قلوبهم أن يتوقف اليوم ,, وقد أعز الله الدولة بقيادتها وشعبها ؟" ...
هذا حديث سيرفضه البعض سلفا , ليس لأنه يخالف قناعاته , بل لأنه يتقاطع ومنهجه , منهج " المؤلفة قلوبهم " .
وقبل أن أبدأ مقاربة تاريخية , أسأل .. هل نحن دولة مدنية معاصرة ؟ .. هل نتجه لأن نكون ؟ .. أم أننا لم نزل دولة رعوية .. !!
في الصورة تجاذبات بين أنصار الحداثة والمدنية , وأنصار الدولة الرعوية , تجاذبات , فيها من الفوضى أكثر مما فيها من المنطق , لكن جلها بظني إرهاصات تسبق تحديد الخيارات .. فهل آن أن نطرق على جدران الخزان ؟.
بديهي أن تأتلف الدولة أي دولة عند النشوء .. قلوب الناس , فهذه سياسة , ابتكرتها الدولة الإسلامية عند النشوء , ولا ضير فيها والدولة إذ ذاك طرية تحتاج لأن تسكت ثغورا ساكنة لكنها متحفزة , وفي مواجهة سياسة الائتلاف ذهب الناس مذاهب بعضهم يتبع الناشيء الجديد , قناعة وحبا , وبعضا آخر يتبعه آملا ورجاء .. وبعضا ثالث يتبعه وفي نفسه ريبه , فما أن تستوي للدولة سطوتها وتتعمق جذورها , يزداد أصحاب القناعة , إيمانا , ويغدو أصحاب الأمل والرجاء مؤمنين , بينما يمسي من في نفسه ريبة نمرودا ..
لكن أين فئة المؤلفة قلوبهم من ذلك كله ؟ وأين يقفون ؟ . وهل لنا بهم حاجة وقد أمضت الدولة ثمانين عاما ..راسخة عصية , ثابتة قوية ؟ .
وأسأل من جديد ... هل نحن دولة مدنية معاصرة , تحتاج لأدوات حكم تتحرى الكفاءة , قبل الجغرافيا والمحاصصة ؟ .. هل تحتاج مثلا لأن تؤلف قلوبا بالتوزير ؟ وهل الجغرافيا تكفي سببا لأن يفتح أصحابها ودعاتها أفواههم لابتلاع كل شيء ومن هم دونهم لئاما على الموائد ؟
هل وجود شيخ بني أمية " أبو سفيان " قبل الدولة يمنحه حق الأمارة حتى لو كان إيمانه بها ضعيفا ؟
وهل صغر سن أسامة بن زيد أو نسبه الضعيف منع " الهاشمي " المصطفى أن يوليه القيادة وفي الجيش إذ ذاك أشراف ونبلاء ؟
وهل أعطي أهل المدينة وهم أنصار رسول الله حق الخلافة , على قاعدة " عجول الأرض وملحها ؟
لمن فاته أن يقرأ التاريخ ف " المؤلفة قلوبهم" هم ضعاف الإيمان من المسلمين الذين يخشى عليهم أن يغيّروا دينهم، فمثل هؤلاء يعطون من الزكاة سهما لتثبيتهم على دينهم وتقوية موقفهم إلى جانب الإسلام. إذ قد يستغل خصوم الإسلام حاجتهم وفقرهم ويعملون على استهوائهم وحرف اعتقادهم.
المؤلفة قلوبهم ليسوا من الرعاع أو الفقراء وهم ليسوا من العامة بل هم , أصناف ، فمنهم أشراف من العرب " ملح الأرض " كان رسول الله يأتلفهم ليسلموا فيرضخ لهم ، ومنهم قوم اسلموا ونياتهم ضعيفة فيؤلف قلوبهم بإجزال العطاء ..
كان ذلك في صدر الدولة .. وهي إذ ذاك ضعيفة تحتاج إلى سكوت ومهادنة زعماء العشائر من الأعراب وقد كان إسلامهم لم يزل ضعيفا ... ما أشبه يوم أول من أمس بيوم أمس .. لكننا اليوم وغدا لسنا في عصر صدر الدولة وقد غدت الدولة قوية صلبة في إيمانها ومعتقدها , غنية في اقتصادها المحصن , وأمنها المرصوص والملتف حول قلب رجل هو دولة بعينها , فهل بتنا في غنى عن تأليف قلوب لم ولن تأتلف لأن فيها بقايا هوى لجاهلية ترغب في سيادة لم تعد هي أساسها ولا أهلا لها , لأن الفرص والريادة والزعامة باتت للمنتج والمنجز وهي كذلك عنوان الإخلاص والوفاء حتى وان كان بلا حاشية ولا فزعة , أو جاه أو كثرة .
وكما أن سهم المؤلفة قلوبهم .. هو الرشوة بعينها في شريعة عمر بن الخطاب , وكان فيها من السياسة أكثر مما فيها من الدين , أوقفها الفاروق .. وقد كانت منزلة , لأن الله في يقين عمر أعز الدولة وأصبحت قوية واليوم ولذات دفوع عمر فان هذا السهم فاقد لمبرراته إذ لا حاجة للرشوة فمن آمن بالدولة اعتقادا فلا بأس وان لم يفعل فليبق عنها بعيد لا شراكة له فيها .. فأصل الشراكة هو الإيمان... أليس كذلك ؟ . والا فما هو حكم الذي ينهى عن شيء ويأت بمثله وفينا ممن يأتون ذلك كثير .
ولمن فاته أن يدرك حراك التاريخ .. المؤلفة قلوبهم في عصرنا هم ضعاف الثقة بالدولة ومستقبلها , لكنهم ليسوا من الضعفاء بل هم أعيان الناس وهم قوة وان كانت زائفة وان كانت جدرانها من وهم وان كان صوتها ضجيج لكن تأثيرها واقع .. ما دامت الأمة لم تزل تتبع خرافات الشعارات والوطنية المغلفة بالغاية والمأرب .. وهي التي يخشى أن تنقلب على الدولة فتثير النعرات وتؤلب الناس بدعوى حق أريد به باطل , والباطل هو الابتزاز , كي يستمر سهم المؤلفة قلوبهم جزلا في جيوبهم ولا ضير إن كان الناس وسيلة , لبلوغ الهدف , أليس هم من يدعي امتلاك مفاتيح التحريك والإسكات في النهاية .
أما آن لسهم المؤلفة قلوبهم أن يتوقف اليوم ,, وقد أعز الله الدولة بقيادتها وشعبها ؟ .
أعود فأبدأ من جديد .. هذا المنهج ( المؤلفة قلوبهم ) الذي ربما تغيرت وجوهه على مر التاريخ وربما تقلبت شخوصه على مر الأيام وربما تغيرت غاياته وأشكاله على مر الأجيال , لكنه هو ذات المنهج يتكرر ويتكرس وان تطور وتكيف فتلك هي سنة الحياة التي منحت هذا النهج وأبطاله مرونة , تكيفت مع المتغيرات من حولها لكنها مضت في فصام داخلي , قابله للحياة وللتكسب من ثغرات المجتمع , فأي " فصام " هذا الذي لم نألف له شكلا ولم ندرك له في التاريخ أنموذجا أو تجربة , هذا الذي جاء به "مؤلفة قلوب" هذا الزمان ممن , يلعبون على عواطف الناس وعلى دينهم وعلى وطنيتهم .. يتاجرون بقوت الناس ويحاربون الغلاء , يبتاعون الأرض والحرش ويحرمون " الخصخصة " , يكنزون الذهب والفضة , ويجلدون اقتصاد السوق الذي أتى لهم بها .. يتلهفون للرذيلة والميسر والأزلام في ديار الروم وفي البيوتات القريبة فيقعدون فيها " مقامرين " غدوا وفي الآصال وفي ديارهم يحرمون , فهي رجس .. وهي إن ذكرت يستغفرون عياذا منها ويرتجفون ويزمجرون ,.. ويؤلبون العامة والخاصة في مجالسهم ويدعون الإخلاص والرضا غمزا ولمزا على الملأ , أما وقد نالوا سهم المؤلفة إذ طلبوه منزلا أو مالا أو راحلة وربما بعثة لولد بلا كفاءة ولا حق سكتوا كفرا لكن إلى حين , أوليس هذا هو الولاء بثمن طالما امتد طالما كان والا ...!!! .
وأعود من جديد , فهاهو ذا أبو سفيان أيامنا هذه , قائم يصلي بين الناس وفي داخله مؤامرة تحاك , وها هو ذا يملأ جيبه بأموال جناها ثمنا لولاء مفقود أو لمهادنة ماكرة .. وكأني بمعاوية ، وعيينة بن حصن ، والأقرع ابن حابس ، وعباس بن مرداس وغيرهم من رجالات العرب "الأقحاح" أو أن شئت ملح أرض هذا الزمان وصفوتها بل وصفوة الصفوة , بل خيرة الخيرة .. كأني بهم يقفون بين الناس أوصياء عليهم أدعياء إيمان هش يطلبون سهما لم يعد لهم .. عينهم على المغانم وجل ثورتهم ونقمتهم على فرص ضاعت وحاجة انتفت مبرراتها , فالولاء لم يعد بضاعة يحتكرونها ويبيعونها على الخليفة , بل قد غدا حالة عامة يعيشها الناس كما الماء والهواء , ,, وقد غدت الدولة قوية تسرع الخطى إلى المدنية والعصرنة .. وتكافؤ الفرص , وبلغت مرتبة توشك فيه أن تلقي ب" المؤلفة قلوبهم " على قارعة الطريق , وقد أزالت ما بينها وبين الناس من حواجز أو وسطاء أو أدعياء السطوة في العشيرة أو الحزب أو المخيم أو الصحافة أو الحكومة أو البرلمان ,, " لا حاجة لنا بهم اليوم فقد أعز الله الدولة بقيادة.. شعبها هو شغاف قلبها " .
نعم هذا حديث سيرفضه البعض ..وهم المؤلفة قلوبهم " لأن التخندق المسبق ورفض الآخر شكلا لا موضوعا , شكلا ومعناها معروف , لكن لا بأس من الإشارة إذ أعني مبدأ الإنكار الذي لا يكتفي بمسح الآخر والاعتراف به بل يغالي بطحنه وتذويبه عندما يملأ الدنيا بشعارات التحريض فيزج بما شاء من مفردات يلبسها لبوسا ليس منها في شيء .. أما موضوعا , فهي الفكرة التي ينبغي بحثها وهي المبدأ الذي ينبغي مجادلته , وهي الاعتراف بالآخر , وهي الإقرار بكفاءة الآخر وهي اليقين بدوره وجهده وهي تجريد الوسيلة من الخيانة وتطهير الهدف من الشك وهي تغييب الريبة وتكريس صفاء النية ونقاء العمل .
المجتمع الأردني .. كأي من المجتمعات المتشابكة , فيها ما يقلق وقيها ما يبهج , فيها ما يستعصي على الفهم وفيها ما هو واضح وضوح الشمس , فيها من مظاهر الصحة كما فيها عوارض المرض , فيها ما هو قابل للشفاء كما فيها ما هو عصي .. التشابك غير الاشتباك .. لأن التشابك قد يفضي إلى نتائج تؤهل المجتمع لأن يمتلك عناصر قوة تكمن في نقل الخبرة والمعرفة , في لغة حوار دافئة لا تعتمد الحكم المسبق ولا الاتهام سلوكا , بينما التشابك هو معركة يتسابق فيها الفرقاء لطحن الآخر , لا تفضي إلا إلى تفكك.. الاتهام منهجها ودينها .. ولو قيض لأي منهم تولي أمر العباد لفضلوا نصب أعواد المشانق على الطرقات .. لكن بحمد الله أن أيا منهم لا يحكم ولا يقود , ولذات الأسباب ليس مؤهلا لأن يتسنم دفة قيادة ..