صدق المثل العربي القائل: «النار من مستصغر الشرر»، وهذا ما يصدقه الواقع المادي المحسوس، فكثيراً من الحرائق التي تلتهم الغابات ومساحات واسعة من الحقول، تكون نتيجة تصرف عبثي غير محسوب النتائج، ويبدو في ظاهره بسيطاً أو تافهاً، مثل رمي عقب سيجارة من نافذة سيارة منطلقة، أونتيجة عدم الاحتياط الكافي لموقد شواء في رحلة تنزه بين الأحراش، خاصة إذا كانت الأجواء صيفية، والأرض مليئة بالهشيم الجاف.
ينطبق ذلك تماماً على المجتمعات والتجمعات البشرية، فكثيراً من الاشكالات الاجتماعية الكبيرة التي تتطور نحو حروب أهلية طاحنة على هيئة «حرب البسوس» أو «داحس والغبراء» التي استمرت بضعة سنوات من القتل والقتل المضاد، والغزو والتشريد والترحال وقصف أعمار الشباب، ربما كانت بسبب كلمة خرقاء صدرت من فم حاقد، أو بيت من الشعر الذي يفيض إساءةً وتهكماً وهجاءً، أو من خلال تصرف أحمق لم يتقيد بأعراف التعامل الآدمي، ولم ينضبط بحدود الأدب، ولم يراعِ إحساس أهل المروءة، ولم يحترم أصحاب الكرامات.
عندما تتهيأ البيئة لاستنبات بذور الحقد والكراهية، وتنشأ مساحات التعصب والتوتر بين مكونات المجتمع، وتكون هناك عوامل مساعدة من الاحباط والشعور بأجواء الهزائم والنكبات التي تصيب الأمة، يصبح الجو مشحوناً قابلاً للاحتراق، وهنا مكمن الخطر وموطن الحذر،الذي يحتاج الى مزيد من الدقة في الحساب والمبالغة بالاحتياط لعواقب الأمور.
ربما تكون عبارة أو تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي كافية لأن تشكل شرارة تشعل حريقا، وربما مقالة في صحيفة، أو قصيدة أو أغنية في عرس تكون سبباً لاستعادة مقومات حرب البسوس أو داحس والغبراء، ودافعاً لقطيع من الجهلة أن يستغرقوا في حرب غرائزية بشعة، تبدا بتبادل عبارات التعصب والجهل والتخلف، الذي ينم عن عقلية لا تدرك أبعاد الكلمة وآثارها، وتنتهي إلى كارثة لا يعلم مداها إلاّ الله.
إن الذين يحاولون التهوين من أثر الكلمة، ويبدون قسطاً وافراً من اللامبالاة إزاء العبارات والتغريدات التي تملأ الفضاء الإعلامي ومواقع التواصل الاجتماعي، إنما يعبثون بأمن المجتمع، ويعبثون بمستقبل الوطن وهم لا يشعرون، وصدق رب العزة القائل في كتابه العزيز:(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ () تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ () وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ).
وجاء في الحديث الشريف:( أنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة – مِنْ رضوان الله - لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة, وإن العبد ليتكلم بالكلمة - من سَخَط الله - لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم)، ويقول الشاعر العربي: جراحات السنان لها التئام ...... و لا يلتام ما جرح اللسان.
نقول ذلك بمناسبة بعض الأحداث التي تمر بها بلدنا ومجتمعنا، ولا يلتفت التاس إلى كلماتهم، وما تحدث من أثر بالغ الخطورة عليهم وعلى المجتمع كله، مثل حادثة «اختطاف الفتاتين» وفتاة الغور وبعض قضايا الاختلاف الحزبي والسياسي، نجد هناك مسارعة لاستدعاء المسألة الجهوية، أو الذهاب إلى التفسير الغرائزي القائم على التعصب المقيت الذي يهدد بنيان المجتمع ويفتك بالنسيج الاجتماعي.
ما نحتاجه بشدة أن ينبري العقلاء والحكماء إلى معالجة هذه القضايا بطريقة سليمة تتوخى الحذر في لون الخطاب، وانتقاء الكلمات والعبارات، والدقة في صياغة التصريحات، ويجب المسارعة إلى تطويق ظواهر التعصب، وعدم السكوت على كل من يسهم في قدح شرر الفتنة.
نحن بحاجة إلى تشريع يجرم عبارات التعصب المذموم، ويعاقب من يمتهن خطاب الكراهية وإثارة البغضاء في المجتمع، ويجب على المجتمع كله بجميع مؤسساته ومنظماته المدنية وأحزابه السياسية أن يتضامن من أجل وأد الشر وإطفاء شرر الفتنة بحزم، وعلى الحكومة أن تضرب بيد من حديد على أيدي العابثين بأمن الوطن دون تهاون أو تساهل.
الدستور