علي محافظة .. سنديانة وفكر
أ.د. عصام سليمان الموسى
25-06-2015 11:39 AM
كنت أظن اني أعرف الدكتور علي محافظة، أبو باسل، معرفة جيدة، كيف لا وهو استاذي الذي درسني في رغدان عام 1961 وترك في ذهني انطباعات “معلم» يسعى «لتعليم» طلبته «التفكير العقلاني» لا «تلقينهم» وحشو رؤوسهم بمصفوفات الكلام المنمق، وبعدها اصبح رئيسي في جامعة اليرموك، وعينني رئيس قسم للصحافة عام 1990 معيدا لي حقوقي بعد ان تجاوزني غيري سنوات دون حق في ظل ادارات مزاجية، وتشرفت بمزاملته في المعهد الدبلوماسي في منتصف التسعينيات حين عملت فيه منتدبا مديرا للتعليم والتدريب ، وصادقته خلال هذه السنوات صداقة التلميذ لمعلمه الذي يوقره ويحترم فكره، وتعرفت على تلامذته الذين أشرف على رسائلهم للدكتوراه فتميزوا على غيرهم، وازددت اعجابا به حين ترأس اللجنة التي أوصت بإعادة طباعة كتب والدنا الراحل، بل وانه كتب مقدمة زينت الطبعات الأول التي صدرت في سلسلة الأعمال الكاملة وفيها شبه والدنا بجيل الأوائل من بناة النهضة الفكرية من امثال عباس العقاد الذين اسسوا منهجا خاصا بفكرهم.
وخلال هذه السنوات تتلمذت على يديه، فقرأت العديد من كتبه في تاريخنا الحديث، وواظبت على حضور محاضراته، واستفدت من دراساته وكتبه في بحوثي ومؤلفاتي، وما بخل علي يوما فأهداني العديد من كتبه.
كنت أظن اني تعرفت على فكر علي محافظة ورؤاه الفكرية، حتى بدأت أقرأ مذكراته المطبوعة (ذاكرة الأيام) لأكتشف اني أمام شخصية تربوية فذة، أمام سنديانة اردنية عربية عالمية شامخة شاهقة، وأمام مفكر باحث رصين، ترتحل معه الى بلدان كثيرة وتسمع أحاديثه وتشارك في لقاءاته كأنك ترافقه في حله وترحاله.
في (ذاكرة الأيام) تواجه علي محافظة الأكاديمي، وتغوص معه في أعماق فكره وتجاربه التي يعلنها بشفافية وجرأة، وتكتشف سعيه الدؤوب للنهوض بالتعليم في الأردن، ومنها على سبيل المثال مطالبته لجان التربية بإقرار مناهج (ص 111) تعلم الطلبة في المدارس مادتي «الموسيقى والفلسفة»، ليتعلم الطلبة جماليات الحياة والتفكير المنطقي، كما تكتشف فيه الأستاذ البحاثة الذي ينقب في الأرشيفات الغربية، وينتقل من منتدى لآخر لا في الأردن وفي البلاد العربية فحسب بل وفي بلاد الغرب والشرق مسلحا بلغات أجنبية عدة، وتتعرف على سعة اتصالاته والشخصيات التي التقاها وتحدث اليها. وتكتشف خيبة الباحث حين تبقى التوصيات للارتقاء بالتعليم مركونة «على الرف» (ص 291).
تتعرف على علي محافظة الذي بنى جامعة مؤتة وأسسها، واتصالاته العديدة لإقامتها صرحا على غرار مؤسسات أكاديمية-عسكرية مشهورة في العالم، وكيف أدار جامعة اليرموك بحصافة، وشكل اللجان الأكاديمية التي زاد عددها عن 20 لجنة تدارست افضل السبل للخروج بها من أزماتها التي ورثها ممن سبقه. وأذكر من مآثره كرئيس واثق بنفسه انه كان يترك بابه مفتوحا فيستقبل مراجعيه من الأكاديميين ساعة يشاءون (مقابل هذا فان طلبي مقابلة لرئيس الجامعة الذي سبقه لأمر أكاديمي ملح استغرق مدة تقارب الشهر، حتى أذن لي عطوفته–ومعاليه لاحقا- وكانت المفاجأة انه استقبلني عند الباب ولم يدعني للدخول الى مكتبه!!). ودائما تعامل الدكتور علي مع زملائه وتلامذته بإنسانية وباحترام وبصدق، لا بفوقية مصطنعة. بل انه سكن في شقة في اسكان جامعة اليرموك وأقام فيها ليبقى قريبا من الجامعة وهمومها (بينما غيره بقي يعود بالسيارة الى عمان بعد انتهاء الدوام في الجامعة كل يوم، وأحيانا أكثر من مرة باليوم الواحد).
نتعرف على علي محافظة الذي يقول كلمة الحق الجريئة في مشاكلنا الأكاديمية، ونتعرف عليه باحثا مرموقا تفتح له الندوات والمؤتمرات أبوابها، يحاضر فيها، ويشارك في جلساتها ونقاشاتها وإدارتها، ويقول رأيه بجرأة ودون مجاملة مما يزيد احترام الآخرين له.
وفي المذكرات تتعرف على علي محافظة رب الأسرة الحاني الذي يتابع شؤون أولاده في دراساتهم، ويصحب الفاضلة زوجه وافراد اسرته في سفراته، ويهتم بأمورهم.
هذه المذكرات هي الجزء الثاني سبقها الجزء الأول عام 2011، الذي تحدث فيه عن حياته في القرية وتجربته طالبا في مدارس الأردن وطالبا جامعيا في سوريا ومعلما في رغدان ثم ودبلوماسيا، فترى كيف توظف الخبرة الطويلة الغنية في تجربة أكاديمية ثرة صنعت منه شخصية مختلفة عما عرفنا من التربويين والباحثين ورؤساء الجامعات، وتكتشف انك أمام مفكر منتم لأمته وقامة أكاديمية سامقة ذات مكانة مقدرة في الوطن وخارجه.
عن الراي.