شيخ الاسلام «امام محاكم التفتيش .. !!»
حسين الرواشدة
22-06-2015 03:49 AM
في مثل هذا الوقت من شهر رمضان عام 699 هـ كانت عساكر الناصر بن قلاوون تفر مهزومة من امام جحافل التتار، ومعها كثيرون من اعيان العلماء وكبار القادة والرجال.. لكن عالما واحدا بقي مع العامة، لم يفر ولم يخرج -كما يروي ابن الاثير-، هذا العالم اسمه: ابن تيمية.
في مرج الصفر، بالقرب من دمشق، قاد ابن تيمية المعركة، وكان الجند صياما فأمرهم بالافطار، واستمر القتال طوال اليوم، حتى اذا جاء العصر ظهر جند مصر والشام وتقهقر التتار الى الجبال والتلال.
ويا لها من مفارقة، فبعد نحو خمسين سنة من ذلك التاريخ، يسلم هذا الفقيه البطل روحه لبارئها في السجن الذي القاه فيه صديقه السلطان الناصر بعد ان ضيق عليه ومنعه من القراءة والكتابة.. ولم يكن ذلك الا لفتوى اصدرها الشيخ قبل سبعة عشر عاما.. يمنع فيها زيارة القبور.
لم يكن ابن تيمية رحمه الله يعرف ان بعض احفاده، ممن داهمتهم جيوش التتار من جديد، سيكتفون بزيارة قبره.. ولكنهم سيعملون به نبشا وبعظامه تكسيرا.. ولم يكن يدرك ان الذين ناصبوه العداوة من الصوفية والاشاعرة وغيرهم من حملة المباخر والمستثمرين في «داعش» سيخرجون بعد اكثر من سبعمائة وخمسين سنة ليحاكموه ويتهموه بالتكفير والزيغ والضلال.
لقد عاش ابن تيمية المحنة حين كان حيا، فسجن في مصر حيث افتى بحرمة الاستغاثة بالاولياء والانبياء، وسجن في دمشق حين أفتى بأن الحلف بالطلاق لا يوقع الطلاق، (وتلك مسألة لا يجوز ان نمر عليها)، فقد هال الفقيه رحمه اللّه ما آلت اليه الاسر من تفكك وضياع بسبب كلمة يطلقها رجل هازل، فرأى ان قطع العلاقة الزوجية لا يجوز ان يقع لمجرد الحلف والحنث، وانما هي يمين حانثة كفارتها العتق او الصدقة او صيام ثلاثة ايام، اما الطلاق فشيء آخر يلزمه القصد اولا.. وحيثما لا قصد فلا افتراق ولا طلاق.. ومات الرجل فيما ظلت «المحنة» تطارده في قبره.. وآخرها هذا الذي نسمعه اليوم من فتاوى تكفره، او آراء تخرجه من دائرة الفقه والعلم والاجتهاد، فلماذا يصر الابناء اليوم على مثل هذا العقوق لآبائهم، ولماذا يهرعون الى المقبرة لنبش ما تبقى من عظام.. وتعليق ما تراكم فوق الظهور من هزائم وانكسارات على جثث الاموات؟
ليس لي بالطبع موقف (مع او ضد) سواء من السلفية او الصوفية او الاشاعرة او المعتزلة وغيرها من الفرق الاسلامية.. فسواء عندي قامات العلماء والائمة والفقهاء.. وعلى قاعدة الاعجاب والاحترام اقرأ مؤلفات سادتنا الائمة الاربعة.. وابن تيمية والغزالي وابن حزم والشاطبي والذهبي والقمي والكليني.. وغيرهم من افذاذ تراثنا العظيم. كما انني قرأت وما زلت اقرأ لابن تيمية، وقد كتبت اكثر من مرة مخالفاً احد تلاميذه الكبار المعاصرين، فرد علي تلميذ له اخر بكتاب عنوانه سؤال «ماذا ينقمون من الشيخ».. لكن ذلك كله لم يمنعني من الاعجاب بابن تيمية رحمة الله عليه وغيره من فقهائنا وعلمائنا وفلاسفتنا ومتكلمينا، حتى لو وجدت من يخالفهم فيما اجتهدوا اليه، او من حكم عليه - من داخل الدائرة الاسلامية - بالزيغ والانحراف.
اليوم - ومحكمة ابن تيمية وغيره من علمائنا المعاصرين كسيد قطب والألباني وسواهم ما تزال قائمة - اتساءل: هل يحق لنا ان ننبش قبور هؤلاء الأفذاذ لنحاكمهم او نتهمهم بالكفروالتكفير والضلال.. وهل يجوز لنا ان نقف اليوم من فكر وفتاوى وآراء واجتهادات مرت عليها مئات او عشرات السنين موقف الادانة والرفض والاستنكار ثم نحملها مسؤولية تخلفنا وانكسارنا وما حل بنا من هزائم فكرية او سياسية او انحرافات في التفكير والمنهج والدليل؟
ليس لاحد ان يدعي القداسة او العصمة، وابن تيمية لم يدع ذلك، وليس لاحد ان يكفر اخاه المسلم ما دام يشهد الشهادتين، وابن تيمية لم يفعل ذلك، وليس لاحد ان يعيد تركيب الاوثان على هيئة رموز او اشخاص مهما كانت مراتبهم الدينية، وابن تيمية الذي قاتل بالسيف والقلم وحاز على محبة الخاصة والعامة لم يفكر بذلك.
فلماذا - اذن - يحاكمون ابن تيمية الان، ولماذا يطلبون رأسه ويريدون استئصال مريديه وحرق كتبه وتشويه فكره، ولماذا يريدون ان تظل عقولنا وابصارنا مصوبة نحو «المقبرة» وكأنما ثأرنا مع الاموات، ومشكلاتنا لا يحلها الا «اعادة» قتلهم ودفنهم من جديد.
ان الذين يضربون - اليوم - لابن تيمية محاكم التفتيش او يستخدمونه لتمرير مواقفهم المغشوشة لن يتوقفوا عن تجريد هذا الرجل من «ايمانه وجهاده واجتهاده» وانما سيطلبون رؤوس ائمتنا كلهم، وتراثنا كله، وديننا وقرآننا ليقيموا لهم جميعا محاكم تفتيش جديدة.. تطردهم من الفعل والحياة.
رحم الله ابن تيمية الذي ظل يردد في كتابه - الفتاوى الشرعية - بأن التكفير هو اول بدعة في الاسلام.
الدستور