.. أمّا جسّاس بن مرّة الشيباني، فَقَدْ ظفرَ به كُليْبُ بن ربيعة، وحبسهُ في بئر، قبل شهورٍ قليلة، من نشوب حرب البسوس، بين تغلب وبكر.
انتهى الراوي التركيُّ من القصة عند هذا الأمر الجلل، في مقهى شعبيّ في مدينة معان، في جنوب الأردن، بعد صلاة التراويح، أوائل القرن الماضي، وقال كلمةً جارحة وحاسمة "نُكمل غداً يا سادة، يا كرام". فكانَ على الرجال المستمعين من فريق كُليب، ومن فريق جسّاس الانصراف الى النوم.
في الطريق الى البيوت في معان الشاميّة، حرصَ فريقُ كُليب على ضرب الخيزران على الأرض، تعبيراً عن نشوة النصر، ولا يقصدون سوى استفزاز الفريق الآخر، وقد أصبحَ بطلهم جسّاس "المانع الذمار" في "قعرٍ مظلمة، لا ماء ولا شجر". وعليهم الانتظارُ لتعليلة اليوم التالي، ليتبيّن الأمرُ، وتنحلُّ عقدة الحكاية.
الحاج خميس أبو الزيت كانَ يتزعّمُ أنصارَ جسّاس، وقد آوى الى منزلهِ في كُربة، وضيق حال. جافاه النومُ. وكيفَ ينامُ مثله، وجسّاسُ رهينة عِنْدَ كُليب. لم يأبه لسؤال زوجته عن مائدة السحور، اختصرَ الإجابةَ، لكنّ الغيظَ والضيق أخذا منه كلّ مأخذ.
فجأةً، سمعَ الحاج خميس أبو الزيت طرْقاً شديداً على باب بيته. سألَ عن الطارق. انه أبو عليّ جاره الذي لم يستطع النومَ قلقاً على مصير جسّاس في محبس كُليب. سأل الحاج خميس، ما العمل؟ "الصباح رباح". لكن هيهات، فها هو أبو عليّ، يذكّره بنظرات الشماتة والاستخفاف من أنصار كُليب، ويلومه على محاولة النوم، فيما جسّاس يقضي ليلَهَ في عتمة كُليب. وما العمل؟ .. كررها الحاج خميس على جاره، الذي يبدو أنه جهّزَ الاقتراح، بالتوجّه على الفور إلى بيت الراوي التركي، فإمَّا أن يُطلقَ سراحَ جسّاس، وإلا فإن الليلةَ لن تنتهي على خير.
راقت الفكرةُ للحاج خميس، فهرولَ مع جاره الى بيت الراوي التركي الذي غطّ في نوم رمضانيّ، ولم يكن في وارد الخطر المحدق به. "خير انشا الله". قال الراوي، وما الذي جاء بكما في هذه الساعة؟. أجابَ أبو عليّ بسرعة وحزمِ من تهيأَ لمعركة: انه جسّاس، وأنت تعلمُ أنّ كُليباً أخذه بالحيلة والغدر.
ابتلعَ الراوي التركيّ ريقه من الخوف، وهوّنَ الحدثَ على الرجلين، وطمأنهما أن جسّاساً، سيقاتلُ سجانيه وينجو غداً، وألحّ الرجلان عليه بالأسئلة، فلم يجدْ بُدّاً من إفشاء اسرار الحكاية كلها، وأكّد لهما أن جسّاساً سيقتلُ كُليباً في نهاية حرب البسوس.
الحاج خميس وأبو عليّ عاداْ الى منزليهما، فرحيْن ومنتصريْن، وَيَا لها من شماتة بفريق كُليب غداً، إِذْ سيعلمُ "الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون"..
نامَ الراوي التركيُّ، بعد هلعٍ، ونام الرجلان، وَقَدْ هدأَ روعهما، وباتَ كلٌّ منهما يُعدُّ العدةَ لغدٍ من الغيظ والنيْل من الخصوم..
ذلك أيضاً من زمانٍ، كان يُصغي فيه الرجالُ الشجعانُ والطَّيِّبُون إلى الحكاية. وماذا في الحكاية سوى أنها تنتهي مع النعاس، وتنامُ بين البيوت..