على موائدنا هذه الايام اطباق كثيرة تسللت اليه واصبحنا نتناولها ونجازف في اعدادها؛ بعضها جاء من الشام واخرى من العراق.. اضافة الى اطباق يمنية وسودانية وليبية واخرى جاءت من الخليج وايران واوروبا والعالم..
اليوم اصبح المطبخ الاردني انتركونتيننتال بجدارة... من التمن والمسقوف والباتشا الى الباباغنوج والكبة باشكالها... الى المندي والمضبي والمكبوس.
بعض الاطباق احتل مساحة على قوائم ولائم الاثرياء وجمعات الستات الاسبوعية فبدا وكأنه طبق اصيل مع ان وقعه ومذاقه واعداده يضع الكثير من سيداتنا وطباخينا في حرج فلا يوجد في وصفات جداتهم ما يدلل على انهن كن على دراية بها.
الحراق اصبعه واحد من هذه الاطباق، فهو شامي الاصول يدخل في اعداده العدس والبصل والخبز وربما الثوم وبعض المطيبات الاخرى.. تقدمه المطاعم التي تخصصت بالاكلات الشرقية.
تدعي بعض النساء انهن يعرفن اعداد الطبق ويتذوقنه ويتبارين في اتقانه.. لكنني لا اظن ان ذلك صحيح؛ فبعض هؤلاء النسوة لا يستطعن قلي جوز من البيض مهما امتلكن من كتب الطهي او اسرفن في شرح الوصفات.
اخريات يزعمن انهن بارعات في اعداد اطباق متعددة من الباذنجان وقد يقمن بذلك فعلا لكن من الصعب علينا ان نحكم على مهارة الطهي ولذة المذاق كون ان الكثير مما يجري اعداده لا اصول محلية لها.
لدى الفلاحين الباذنجان لا استخدام له الا للمقلوبة والمقالي والمتبل واحيانا تغامر بعض النساء غير شاميات الاصول في اعداد مخللات المقدوس وقلما ينجحن في اتقانه.. فتارة يسلق الباذنجان اكثر مما يجب فيصبح هريسا من اليوم الاول وتارة يمررنه على الماء الساخن فيبقى غير ناضج ومعظم الفلاحات لا يعرفن بدقة الخلطة المناسبة لحشوة المقدوس فاما ان تاتي مالحة او قليلة الجوز او مشبعة بالثوم او قليلة الزيت او بلا كزبرة...البعض منهن يستخدمن زيت قديم في اغراق الباذنجان المسلوق فيفسدن المذاق.. اخريات لا يحكمن غلق الاواني والمرطبانات التي تحوي المقدوس فيعلوه طبقة من العفن التي تجعل المنظر مقززا. مهما طال شرح النساء حول الوصفات وطريفة الاعداد فقلما تنجح النساء ذوات الاصول الفلاحية والبدوية في اعداد المقدوس كما ينبغي فالشروحات تغاير المشاهدات والي بتاكل العين...
العدس محصول كان الاباء بنتجونه بكثرة لكننا لم نفكر يوما في اعداد اطباق منه على شاكلة الحراق الذي برع فيه اخوتنا الشوام.. العدس بالنسبة لنا شوربة شتوية... ومكون من مكونات طبق الرشوف... اكلة اهلنا الشعبية الاولى التي تغنوا فيها "يا ما حلى قدر الرشوف.. لنه برد نهجم عليه " كان صديقا للقمح المجروش او المدقوق والحمص واللبن الجميد او السريح حيث تشكل جميعا طبق الرشوف او العيش اعتمادا على سماكة الخليط....الرقاقة كانت تعد من رقائق العجين المطبوخ باللبن مضافا لها العدس...والمجدرة سيدة اطباق الفقراء التي اكتسبت شعبية كبرى بعد قدوم الارز الى بلادنا ودخولهما في شراكة جميلة..حيث تنتفخ حبات العدس المطبوخ ويمتزج لونها البني مع بياض الارز ليشكلا معا غذاء يلبي حاجة الاسر واطفالها من البروتين النباتي الضروري للبناء.
ايام طفولتنا برع احد اقاربي الذي يملك حاكورة لا تتجاوز مساحتها بضع دونمات في زراعة القرع الذي اكسبه شهرة واسعة وجعله ملك انتاج هذا الصنف بلا منازع...بعض حبات القرع كانت تزن اكثر من 30كغم... وفي بعض ايام رمضان التي تعقب جمع المحصول كانت الكثير من الاسر تنوع وجبات الافطار باضافة القرع مع العدس الى موائد افطارها.. كان الطبق مختلفا حيث تعطي حلاوة القرع ولونه مذاقا والواناً للطبق الغريب على قرانا وذائقة اهلنا البرية.
فتة الدجاج وحراق اصبعه واليالنجي والشنكليش والتبولة وحتى الاجبان المقلية والكبة النية وكثير من الصحون الجانبية غريبة على الذوق الاردني حتى وان حاولت النساء المتمدنات من امهاتنا وزوجاتنا الادعاء بانهن بارعات في اعدادها..
المطبخ الاردني فقد هويته وامهاتنا اربكن من المجاراة المصطنعة والتمثيل والابتسامات المزيفة.. فلا هن يملكن مهارة الاعداد ولا نحن مستعدون للاستمرار في لعبة المجاراة والسلوك الارضائي التي ادخلنا فيها وصدقنا ما قيل لنا عنا.
لا زلت حائرا في سبب التسمية التي اعطيت لطبق حراق اصبعه.. الاعتراف الاخر الذي اود ان ادلي به انني لم احب يوما الكبسة ولا المندي ولا المضبي حتى الصيادية التي كانت بعض الفلاحات في قريتنا يزعمن انهن بستطعن اعدادها بشكل توكل اصبعك وراها... لم تكن اكثر من خلطة سمك مع ارز كنا نقبل عليها لأننا لم نعرف المذاق الذي يكتسبه الطبق في بلد المنشأ...
انا لا احب ان أأكل اصبعي وراء اي شيء... ولا اريد ان احرق اصبعي.. افضل الرشوف واللبن ومجللة الزيت التي يعدها اهلي.. فالمندي والمضبي وحراق اصبعه والشنكليش كنا نتناولها من باب المجاملة لا اكثر....
السؤال الاهم هل سيترك الناس ليتناولوا ما يروق لهم؟ ام هل سيستمر المطبخ يعج بكل اطباق الدنيا حتى يفقد الناس مذاقهم وتحرق اصابعهم.؟