رمضان الزرقاء .. الجار للجار !
رشاد ابو داود
20-06-2015 04:57 AM
في زمن الماء وبيوت الطين وسيل الزرقاء كان رمضان اجمل . عطش يروي الصائمين، نهار ملوّن من الخيط الابيض الى الخيط الاسود والامهات يرتقن ثياب الفقر بالصبر وبكثير من بهجة الامل، غداً يكبر الاولاد، يصبحون معلمين ومهندسين ومديرين وكتابا وصحفيين وعسكريين . كان الابن رأسمال ابيه الذي يلقي رأسه على الوسادة كطير هدّه التحليق في فضاءات التعب ليلتقط حبات قمح تناثرت من فائض الموسرين . الرغيف اولاً وتاسعاً وان بقي في عاشر متسعاً لطبخة ينقصها اللحم لكن لا تنقصها البركة وشهية الاطفال القنوعين .
علمونا ان « القناعة كنز لا يفنى « وأن «من سار على الدرب وصل « . كان الدرب الى المدرسة طويلا لكن اقدامنا الصغيرة لم تكن تعرف التعب . قريبة من الارض ، تلمس التراب الذي خلقت منه واليه تعود . لا فاصل بينهما الا ما يقي الجلد من مسمار سقط سهواً على الرصيف او قطعة من زجاجة «كازوز» سينالكو او ميرندا ، تلك التي كانت تصنع محلياً، ابنة البلد، قبل غزو البيبسي والكوكاكولا والسفن أب وما هبّ ودب !
احذية من بقايا اغنياء العالم بنصف دينار او بوط اسود ابو اصبع، اول الاقدام الصينية التي وطأت البلد بدينار ونصف الدينار ، ومن لا يملك المبلغ فحذاء الكتان الابيض، ابيض لايام معدودات ثم يصبح رمادياً لا هو اسود ولا ابيض . وويل لمن يهترىء حذاؤه خلال السنة الدراسية .
كان الكل فقيراً لكنه لا يشكو الفقر، بائساً لا يعاني البؤس . لا وقت للشكوى ولا طريق للوصول الا مواصلة المشي نحو الشمس .
لم يكن ثمة وقت للكره . المحبة بين الناس سيدة الموقف و..» الحال من بعضه « . الفرح ممكن والضحكة حقيقية . الاحساس بالجار اساس وازالة الاحجار من الطريق عادة الصغار والكبار . كان ثمة وقت للفرح في كل وقت . ومتسع للشبع في امتلاء الجوف . وكان رمضان طقس العبادة والريادة والاكتمال الروحي .
مائدة الافطار على الحصيرة الموشاة بالوان القناعة او على « طبلية» ترتفع سنتيمترات عن الارض تمتلىء بطبخات الحارة لكأنها مائدة موحدة . قبل الافطار كانت الام تملأ صحن الالمنيوم او الفخار وتنادي « خذ يا ولد هذا للجيران « والجيران يرسلون من طبختهم للجيران .الجار كان اخا للجار يشعر بوجعه و يفرح لفرحه و..يعرف ماذا طبخ لافطار رمضان.
وبعد الافطار القطايف بالجوز، لم تكن الجبنة تكفي الا للسحور والقشطة لم تكن في قاموس الناس . الاباء يتقنون عمل القطايف اكثر من الامهات، هكذا كانوا يفتخرون ليثبتوا انهم القوامون على النساء كما الحال مع عمل السَلَطة التي كانت من حشائش الارض و..حبتين بندورة تلك المدللة التي كان سعرها يرتفع في رمضان .
كان رمضان كريما بالفعل وليس كما الان بالقول و برسائل الواتس اب والبطاقات المعدّة سلفاً . لكأنها فرح مصنّع ، جاهز للاستخدام بكبسة زر لا بنبضة قلب .
في الزرقاء كانت الطبخات مما يزرع على جوانب السيل، زهرة وملفوف و فاصوليا وباذنجان و بندورة وووو . والاكلات شبه موحدة على موائد الكل، منسف، ملوخية، شاكرية، مقلوبة . لا عصائر مصنعة، خروب وسوس وتمر هندي فقط .
يا الله كم تغيرت النفوس والاحوال و موائد رمضان ! كم صرنا غرباء في رمضاننا !!
الدستور