في يوم قائظ مررت عبر قرى البدو جنوب الجيزة، وحيثما التفت لم أرّ سوى نبات «العظو» ذو الخضرة الدائمة وسط قفار صفراء لا تشبع فيها ناقة ولا يرتوي فيها عصفور، حيث ينقل سكان القرى المتناثرة الماء في سياراتهم القديمة، لا أدري ما الاسم العلمي لنبات العظو الذي لا تأكله المواشي، ولكن ما تعلمته في سفر التاريخ الأردني وعلى شفاه الرعيل القديم، أن هذا الشجر الصغير كان يجمع حتى منتصف القرن العشرين وينقل بواسطة شاحنات الى نابلس حيث يدخل في صناعة الصابون، ثم فجأة يظهر أمامي وعلى ربوة قاحلة لا تبعد عن مركز العاصمة عمان أكثر من خمسين كيلومترا، يظهر مستشفى ميداني تابع للقوات المسلحة الأردنية، يقوم بمهام وزارة الصحة في القرى المنسية.
الجيش الأردني، الذي سيغلق نهاية العام سجله السنوي الخامس وهو في حالة "جيش نجدة"، إستقبل أكثر من مليون لاجىء من الأشقاء السوريين عبر الحدود البرية مع سوريا، من صحراء المفرق والرويشد شرقا حتى أودية سما الروسان واربد غربا، فأصبح «الناقل الإنساني الرسمي» للدولة الأردنية، وهذا لم يكن لو لم يكن الشعب الأردني الذي يتناسل منه العسكر والعروبيون والأحرار من مختلف مشاربهم ومساقط رؤوسهم صاحب حظ كبير في رقي الإنسان والإيثار والنخوة والكرم مع ضيق ذات اليد، فلقد استقبلت هذه الأرض بقدر ما حملت الرياح سحابا غير ممطر على تلك القفار التي لا تنتج أكثر من «العظو».
اليوم وبعد الانتهاء من كتابة هذه المقالة، ستمر من أمام منازلنا جنازة نائب الرئيس العراقي ووزير خارجية العراق المخضرم طارق عزيز، حيث ستضم سهول مادبا جثمان الفقيد الذي دوّخ العالم الغربي باحترافيته السياسية إبان حكم حزب البعث بقيادة صدام حسين، وكانوا يسمونه "المسافر الوحيد" إذ لم يكن أحد من مسؤولي القيادة يتمتع برفاهية السفر متى شاء، ومع هذا لا ندري إن كان قد خطر على بال الرجل يوما ما أن يدفن خارج أرض العراق التي دافعوا عنها دفاع الأبطال، ولكنه حتما قد عاف تلك الأرض بعدما استشرى مرض الطائفية والعمالة وصعد نجم الحقد المذهبي والكراهية السياسية في بلد كان من أكثر بلاد العالم استقطابا لأهل الفكر والسياسة والثورية العرب، فأوصى بدفنه في الأردن.
طارق عزيز ليس المسؤول العراقي الأول الذي يدفن في الأردن الكبير، فلقد مات ودفن هنا الرئيس العراقي الأسبق عبدالرحمن عارف في آب 2007، وهو الذي كان آخر رؤساء العراق قبل حكم البعث 1968، وآخر الرؤساء الذين كانوا ضمن خلية الضباط الذين شاركوا بثورة تموز 1958، ضد الحكم الملكي الهاشمي على العراق، ومع هذا لم يجد الرئيس عارف الذي شهد حرب 1967 موئلا يلوذ إليه عقب احتلال العراق سوى الأردن، وقد شاركت شخصيا في جنازته التي خرجت من مسجد الكالوتي في الرابية الى مقبرة شهداء الجيش العراقي بالمفرق، ومن شهدها كان سيتعلم درسا أن الحياة لا تستحق القتل من أجلها، إذ لم يشهد الجنازة أكثر من جنازة فقير في أحد أحياء المدينة.
وبعيدا عن المسؤولين السياسيين والعسكريين القدامى والجدد الذي سكنوا مؤقتا في العاصمة عمان أو تركوها الى بلاد أخرى، فقد مات هنا ودفن هنا على هذه الأرض وفي قريتي أم رمانه حيث سيمرها عزيز، دفن الشيخ منيف الفيصل الجربا أحد زعماء قبائل العراق ممن جاؤوا لهذا الحمى الطيب نتيجة التهجير السياسي، وقبله بسنين طويلة لجأ أمير قبائل البادية السورية الشيخ نوري بن مهيد ذائع الصيت، وحل ضيفا عليكم حيث أكرم المغفور الملك الحسين وفادته، ورغم أنه اختار الرحيل الى المملكة العربية السعودية، ولكن الله اختار موته على هذه الأرض، فقد عاد للعلاج وتوفي في مستشفى «عمان الكبير» مستشفى الجامعة اليوم، ودفن في أرضكم.
من هنا وبعيدا عن الآراء السياسية والأهواء والغايات والمناكفات، وغير بعيد عن الظلم المعنوي والمادي الذي نعانيه، فإننا ننظر بعين الفخر لشجرة العروبة وسماحة ديننا وسعة حضن وطننا، ولهذا يفخر الأردنيون بوطنهم رغم ما يعانون، فالله تعالى جعل في هذا البلد الكبير سرا وهو الذي يرزح تحت نير الفقر والحاجة وشح الموارد، فنفهم أن الأردن أرض السلام والطمأنينة حيث ترتاح فيها جثامين من صالوا ومن جالوا على صهوات الزعامة في بلادهم ثم جاء بهم الله إلينا، فلتحمدوا الله ولتحافظوا على استقرار بلدكم الطيب، فهذا هو السرّ.
الرأي