يفرض علينا الاحتفال بعيد الجيش العربي أن نركز الضوء على واحدة من أهم المزايا التي تميز جيشنا عن سائر الجيوش، ليس في منطقتنا، بل أكاد أجزم بأنها تميزه عن سائر جيوش العالم، اعني بها انحياز الجيش العربي الى الحرية والديمقراطية.. ليس بمعنى حمايتها فقط، فقد يشترك الكثير من جيوش العالم بحماية ديمقراطية بلدانها، ولكن جيشنا يتميز عن سائر الجيوش بإسهامه الفعلي في بناء الديمقراطية، ليس من خلال تربية ابنائه على روح الديمقراطية فقط بل لأن هذه التربية التي يمتاز بها جيشنا جعلته المؤسسة الأكثر رفدًا للحياة السياسية الاردنية ببناة الديمقراطية، ومن ثم حمايتها والدفاع عنها.
إن أي قارىء منصف لتاريخ الاردن, سيكتشف أن عسكر الاردن كانوا في العقد الاخير من القرن العشرين على وجه الخصوص, من بناة الديموقراطية والمدافعين عنها.. ليس بالقول, ولكن بالممارسة العملية, وفي هذا المجال سأستشهد بخمسة من عسكر الاردن الذين روَوْا بجهدهم ومواقفهم شجرة الديموقراطية ودافعوا عنها, وهؤلاء الخمسة هم: سمو الامير زيد بن شاكر, ودولة السيد احمد عبيدات, ودولة الدكتور عبد السلام المجالي، ومثلهم الفريق الركن عبد الهادي المجالي، وقبلهم دولة السيد مضر بدران, فهؤلاء الخمسة، واحد منهم كان قائداً عاماً للقوات المسلحة واخر كان مديرًا عاماً للخدمات الطبية الملكية وأحدهم كان رئيسا لهيئة الاركان العامة للقوات المسلحة، ثم مديرا للامن العام واثنان منهم كانا مديريْن عامين للمخابرات العامة, أي انهم كانوا في قمة الهرم العسكري والأمني الاردني.. ومع ذلك فإن احداً لا يجادل بأدوارهم في زرع شجرة الديموقراطية ورعايتها.
سمو الامير زيد بن شاكر, هو الذي ترأس الحكومة التي أجرت أنْزه انتخابات برلمانية في تاريخ الاردن، وأنتجت برلمان 1989 الذي شكّل وما زال, نموذجاً فارقاً في العمل البرلماني والديموقراطي في الاردن, وصار نموذجاً نتمنى تكراره في حياتنا السياسية.
أما دولة السيد احمد عبيدات, فقد صار رمزاً من رموز الديموقراطية والدفاع عنها, والسعي لتجذيرها, حتى لو اضطره ذلك إلى دفع ثمن مواقفه كما فعل مراراً.
أما دولة الدكتور عبد السلام المجالي الذي تتعدد انجازاته في مجالات التعليم والصحة على وجه الخصوص، وسائر مجالات الحياة التي إن جاز للبعض ان ينسى شيئا منها، فان احدًا لا يستطيع ان ينسى انحياز دولته للديمقراطية وحق المواطن في ممارسة الحرية والمشاركة في صناعة القرار. وآخر اسهاماته في هذا المجال تقديمه لنموذج مبتكر للامركزية يناسب التجربة الاردنية بهدف تعزيز قيمة الحرية والمشاركة باعتبارهما اهم مكونات الديمقراطية.
أما المهندس عبد الهادي المجالي فلم يملّ منذ قرابة الربع قرن من جهوده الدؤوبه لترسيخ الحياة الحزبية والبرلمانية في الاردن باعتبارهما (الاحزاب والبرلمان) أهم مكونات الديمقراطية.
ومثلهم جميعا لم يكن مفاجئا انحياز دولة السيد مضر بدران للديموقراطيه والانتصار لها, والإلحاح على حمايتها وترسيخها, كما جاء على لسانه في أكثر من حلقة من الحلقات التي تذكر من خلالها بعض المحطات, التي عاشها في مواقع مختلفة من مواقع المسؤولية، التي تولاها على مدار نصف قرن من عمر الدولة الاردنية الحديثة. فقد خلع السيد مضر بدران بدلته العسكرية ليصبح من العاملين من اجل ترسيخ الديموقراطية, والدعوة للتعددية, والانتصار لحق المعارضة في إبداء الرأي, بل والسعي لإيجاد المعارضة الوطنية وترسيخها, لأن وجودها ضرورة وطنية, تجعل الرؤية اكثر وضوحا واكثر شمولية, ومن هذه القناعة التي رسخت في وجدان مضر بدران, ما زالت في ذاكرة الاردنيين صورته ممسكاً بأعصابه, كابحاً لجام غضبه في مواجهة أقوى واشرس البرلمانات في تاريخ الاردن, أعني برلمان 1989, الذي كان السيد مضر بدران اول رئيس وزراء, يتعامل معه, ويطلب الثقة منه, متحملاً كل الانتقادات والسهام التي اطلقها اعضاء ذلك المجلس باتجاه الحكم والحكومة, والتي أصاب جزء منها السيد مضر بدران على المستوى الشخصي بالكثير من الظلم والبهتان, ومع ذلك تحمل الرجل ورفض فكرة حل المجلس, كل ذلك إيماناً منه بأهمية الديموقراطية, وابرزمكوناتها مجلس نواب قوي, يراقب الحكومة ويكون عونا لها في القضايا الوطنية, وهو ما ثبت بالممارسة العملية, كما اكد ذلك دولته عندما اشار الى كيف أن مجلس النواب المنتخب انتخابا حراً كان نعم العون للحكومة والوطن في المواقف المفصلية..كما حدث في حرب الخليج الأولى, وهو ما فعله أيضاً المجلس الوطني الاستشاري, الذي ضم رموز المعارضة الاردنية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار.. ومع ذلك فإنه وكما يشهد السيد بدران, كان في قمة المسوؤلية وقمة الوطنية, ودعامة هامة لاستقرار الوطن, وترشيد عمل الحكومة ومساعدتها, مما يعزز القناعة بأهمية الديموقراطية وأهمية الاحتكام اليها لتعزيز شعبية النظام السياسي وشرعيته.
وعلى ذكر القناعة, لا بد من الاشارة هنا الى ان من مزايا مضر بدران, انه رجل يعيش قناعاته, ولا يحيد عنها مهما كان الثمن, وهنا يسجل له انه اختار ان يعتزل العمل السياسي طوعاً, عندما صارمسار هذا العمل مختلفًا عن قناعاته, وهذه نادرة الحدوث في حياتنا السياسية, وقد تميز بها مضر بدران.
هؤلاء هم عسكرنا الذين لخصنا في السطور أعلاه, جزءاً من إسهامهم في بناء وتعزيز الديموقراطية, وهذه حالة مغايرة ومناقضة لما عرف عن العسكر, وخاصة في بلادنا العربية, من ميل لفرض الحكم الديكتاتوري الذي يسيطر فيه العسكر على مفاصل الدولة, ويعيثون, وهو ما لم يحدث في الاردن, لأن هؤلاء هم عسكرنا الذين نحتفل اليوم بعيدهم.
الرأي