نحن تغيرنا والجنوب تغير ايضا .. !!
حسين الرواشدة
08-06-2015 04:05 AM
حاولت بلا جدوى ان اهرب من الكتابة عما حدث مؤخرا في الجنوب، ليس فقط لانني واحد من ابنائه العاشقين لترابه، والمصابين – حد المرض- بالحنين اليه، والعارفين بتفاصيل تضاريس الناس فيه : اخلاقهم وهمومهم ومعاناتهم وذنوبهم، وانما لانني ايضا اشعر بالصدمة والخيبة تجاه ما جرى، ذلك انه لم يخطر في بالي ابدا ان تصل امراضنا الاجتماعية الى مثل هذه المجتمعات التي حافظت على براءتها، والتزم الناس فيها – رغم الفقر والعوز – بالرضا والقناعة.
تفاصيل القصة – بالطبع – اصبحت معروفة، فقد قام بعض التجار باستلهام فكرة “البورصات “ التي تورط فيها البعض قبل سنوات، لكن في سياقات اخرى، حيث اغروا الناس ببيع سياراتهم ورهن عقاراتهم باسعار اعلى من سعرها الحقيقي، على ان تدفع لهم اثمانها بعد شهور بشيكات مؤجلة، ثم قاموا ببيعها باقل من السعر الذي اشتروه، وهكذا تدحرجت العملية على مدى ثلاث سنوات حتى وصلت الى كارثة حقيقية، اكتشف المواطنون الذين غامروا "بتحويشة" العمر انهم تعرضوا لعمليات توظيف اموال، ربح بعضهم فيها وخسر اخرون، وفيما لا تزال التحقيقات جارية لمعرفة تفاصيلها، تأكد للجميع ان ما حدث كان تجارة غير مشروعة تفوح منها رائحة “النصب” .
حين ندقق في الصورة نكتشف ان ثلاثة اطراف تتحمل المسؤولية : الطرف الاول الحكومة واجهزتها المختلفة التي ظلت تتفرج على المشكلة لمدة ثلاث سنوات، ولم تتحرك، لا للقبض على التجار المخالفين ولا لتحذير المواطنين منهم، الطرف الثاني هو الشطار من التجار الذين نصبوا شباكهم لاصطياد المواطنين، سواء من خلال اقامة معارض لبيع السيارات او مكاتب لشراء العقارات والاراضي، اما الطرف الثالث فهو المواطن الذي وقع ضحيه لاغراءات الثراء السريع او البحث عن المال باية وسيلة.
حين ندقق اكثر نجد ما جرى يحتاج الى قراءة اكثر عمقا، اولا على صعيد المجتمعات التي تحولت من حاضنة لقيم” الرضا والصبر والقناعة” الى مجتمعات قابلة وحاضنة لقيم جديدة وافدة وغريبة عليها (اقلها الكسب غير المشروع )، هنا يجب ان ندق ناقوس الخطر لسببين : احدهما ان مثل هذا التحول في القيم له اسبابه، منها ما يتعلق بالفقر والبطالة ومنها ما يتعلق بالطمع والجشع، لكن مهما يكن نصيب اي من هذه الاسباب في ولادة الظاهرة فان مجرد وجود قابلية لدى هذه المجتمعات للتكيف او للتحول السلبي يعني انها افتقدت المناعة للصمود امام اي اغراءات، وما دام انها رضخت لشروط “السوق “ التجاري وراس المال، فانها يمكن ان تخضع لشروط السوق السياسي، والاخطر من ذلك لشروط سوق التطرف الذي يداهمنا الان ويبحث بيننا عن مزيد من الزبائن.
اما ثانيهما، فيتعلق “بألغاز” عدم اكتشاف المشكلة رغم انها بدأت منذ ثلاث سنوات، لا اتحدث هنا عن مسؤولية الحكومة واجهزتها فقط وانما عن مسؤولية الادارات المحلية والقوى الاجتماعية هناك، اليس من الغريب والمدهش ان احدا في تلك المجتمعات لم يلتفت الى القضية ولم ينتبه الى انها عملية مشبوهة على الاقل، الامر الذي يعني ان السكوت عنها كان مريبا، وبالتالي فان السكوت عن غيرها – مهما كان حجم خطرها – يمكن ان يتكرر ايضا.
ما يفزعنا حقا هو ما تعرض له مجتمعنا من اصابات انتهت به الى هذه الهشاشة، ذلك اننا عهدنا فيما مضى من عقود ان لدينا مجتمعا يتعاضد ويتعاون على الخير، ويتصدى ويواجه اي خطر او خطأ ولا يصمت عن الشر، لكنا الان امام مجتمع جديد، صحيح ان علاقاته لا تزال مفتوحة ومكشوفة وانه غالبا بلا اسرار، لكن الصحيح ايضا هو انه طرد من داخله فكرة” حلف الفضول “ كما انه طلق “النهي عن المنكر” وتحول للاسف الى مجتمع قبلي بغطاء مدني، والمقصود هنا انه خلط بين اخلاقيات البداوة وقيم التمدن فكاد يخسر الاثنتين معا.
لانني اعرف هوية الجنوب وشخصية الناس من اهلي هناك، ولانني لا أزال اتذكر طبائعهم وعوائدهم واخلاقهم الاصيلة، فان صدمتني مما جرى كانت كبيرة، ذلك ان السؤال الذي ظل وما زال يطاردني ويطرق رأسي هو : من اية تربة سياسية او اجتماعية او اقتصادية خرجت الى هذه المجتمعات البسيطة مثل هذه القيم المغشوشة، وكيف تحول الناس هناك من مقامات الرضا والصبر والقناعة وطلب السترة والعفة الى مقامات اخرى دفعتهم للهروب خلف وهم الثراء وسراب الطمع، وكيف وقعوا في شباك الشطار والنصابين، وكيف اصبحوا ضحايا لهذا التوحش الذي حول مجتمعاتنا الى صحارى قاحلة، ثم هل من حل عاجل وحكيم للخروج من هذه الازمة باقل ما يمكن من خسائر..؟
نحن تغيرنا والجنوب تغير ايضا، هذه هي المشكلة التي لا نريد حتى الان ان نعترف بها.
الدستور