إلى خالد الكركي مَا لَنَا كُلُّنَا جَوٍ يا رَسُولُ
الدكتور اسماعيل السعودي
01-06-2015 10:19 PM
بمناسبة انتخاب الدكتور خالد الكركي رئيساً لمجمع اللغة العربية
* إسماعيل السعودي
كان أول صعود لي نحو المعرفة والكرامة، بالتزامن مع صعودك وعزِّ الدين القسّام إلى يَعْبَدْ، فنهضتُ معكَ رايةً لا تنكسرُ لها ساريةٌ، وفرحاً بالتحدي الجديدِ لا ينضّبُ، وصوتاً يترددُ في كلِّ ضميرٍ وصدىً وموتٍ. أعلنتُ معكَ وشيخكَ المثقلِ بالوجدِ والجراحِ، أنّ السيفَ رهانُ الأمةِ الأخيرِ، وبأنّه أصدقُ إنباءً من الكتبِ، لمْ أكنْ استطيعُ الإقامةَ دونكَ في أيِّة أرضٍ فكنتُ دونك على قلقٍ كأنّ الريحَ تحتي، لذا كانتْ كلُّ الدروبِ وإنْ أرادتْ غيرك ترحلُ إليك، ترافقُنا إليكَ كما رافقتْ صديقك إلى حبيبهِ في حلب، لأنّ المسمّوْن بالأمير كثيرٌ وأنتَ الذي بها المَأمُولُ:
لا أقَمْنَا عَلى مَكانٍ وَإنْ طَا .... بَ وَلا يُمكِنُ المكانَ الرّحيلُ
كُلّمَا رَحّبَتْ بنا الرّوْضُ قُلْنَا .... حَلَبٌ قَصْدُنَا وَأنْتِ السّبيلُ
لم نسمع فيك عاذلا، ولم نطع فيك واشيا، فالقَلْبُ أعلَمُ بدائِهِ، واعرف بحبيبه الذي ما باع يوما قمحه، ولا خان يوما حلمه، كيف لا وقد كنت مُعِيْنَه على صبابته بالأسى، لذلك أستعذبك ورفض الآخرين ماءً آسناً وملحاً وظمأً، لأنهم استنكروا خبزكَ الذي قاسمتهم إياه ذاتَ جوعٍ وعطشٍ، ولأنهم حسبوا ماءكَ في إناءِ أمريكا، وهو الذي قد كانَ لهمْ عربياً خالصاً عذباً فراتاً.
لم نضع ضُمَيراً عن مَيامِنِنا كما فعل الآخرون، لأننا قد وجدنا كلَّ شيءٍ غير الوطن خراباً ويباباً، ولأننا رأينكَ وطناً تملك الصواعق والدِّيم، فلم نستسقِ غير طلِّكَ، ولم نطلبْ غير ظلِّك، لأننا ندركُ أنَّ طلَّك وابلٌ من الكبرياءِ والكرامةِ، ووابلُ غيّركِ طوفان من الذّلِّ والانكسارِ والمهانةِ. كَمْ طلبوا لكَ عيبا فأعجزهم ما يطلبون، لأنّ العيبَ والنقصانَ بعيدانِ عن شرفك، فأنتَ الثّرَيّا وَذانِ الشّيبُ وَالهَرَمُ، فلقدْ هزمتهم أدباً وخلقاً ومداداً ما كتبَ إلا الحقَّ، ولا سالَ إلا ليمتزجَ مع جراحِ شهداءِ فلسطينَ والعراقِ، يعلنُ الوفاءَ لدمعهمْ، والعرفانَ لنجيعهمْ الطيّبِ الطاهرِ:
أَلزَمتَ نَفسَكَ شَيئاً لَيسَ يَلزَمُها .... أَن لا يُوارِيَهُم أَرضٌ وَلا عَلَمُ
أكُلّمَا رُمْتَ جَيْشاً فانْثَنَى هَرَباً .... تَصَرّفَتْ بِكَ في آثَارِهِ الهِمَمُ
عَلَيْكَ هَزْمُهُمُ في كلّ مُعْتَرَكٍ .... وَمَا عَلَيْكَ بهِمْ عارٌ إذا انهَزَمُوا
أمَا تَرَى ظَفَراً حُلْواً سِوَى ظَفَرٍ .... تَصافَحَتْ فيهِ بِيضُ الهِنْدِ وَاللِّممُ
نصبوا العداء لكَ وأعلنوه عنواناً لتخاذلهم وخنوعهم، أعلنوه بالذات لكَ أنتْ لأنكَ لم تصالح على الدم حتى بدم، ولأنك تدرك أنَّ الرؤوس ليست سواء، وبأن قلبَ الغريب ليس كقلب أخيك، ولأنك غرست سيفك في جبهة الصحراء الغارقة بوحل النفط، تنتظرُ أن يجيبك العدم والخراب. ناصبوك العداء وأنت أرض بستانهم لم تطأْ، ولم تمدَّ يوما يدك لثمار كرومهم، ولم تتسلل لحدود مضاربهم، كيف لانت قلوبهم للنساء المتّشحات بالسواد، ولم تلن لأطفال غزّة والفلوجة، ولكن لا غالب إلا الله، ولا عزة إلا في ظلاله:
تُفَدّيكَ النُّفوسُ ولا تَفادى ... فأدْنِ الوصلَ أوْ أطِلِ البِعادا
إذا سارَتْكَ شُهْبُ الليل قالت ... أعانَ الُله أبْعَدَنا مُرادا
وإنْ جارَتْكَ هُوجُ الرّيحِ كانت ... أكَلَّ رَكائباً وأقَلَّ زادا
إذا هادَى أخٌ مِنّا أخاهُ ... تُرابَكَ كان ألْطَفَ ما يُهادى
سيدي صاحبَ المدادِ والحرفِ؛ لن احملَ أوراقي واعتذرُ، لعيونِ قدحٍ من نفطٍ، أو كوبٍ من غازٍ، لأنني ما زلتُ أُغالِبُ فيكَ الشّوْقَ وَالشوْقُ أغلَبُ، وما زلتُ انتظر منك يداً تخبرني في جنح ليليَّ المثّخنِ بالأسئلة بأنّ المَانَوِيّةَ تَكْذِبُ، وبأنّ الجُرُذَ المُسْتَغِيرَ قد أصبحَ أسيرَ المنَايا صَريعَ العَطَبْ، لأنَّ الكِنَانيَّ وَالعَامِرِيَّ قد قتلاهُ وأراحا الأمة من تجبره وبطشه !!!، فكلاهما اتّلَى قَتْلَهُ وكلاهما غَلّ حُرَّ السَّلَبْ.
سيدي صاحبَ البوحِ والجرحِ؛ أعدْ لي صباحي فهو نهبُ الأجانبِ، وأعدَّ لي قصيدةً بطعمِ وطنٍ وجرحٍ، قصيدةً بحجمِ نخيلِ بغداد، وأرزِ لبنانَ، وليمونِ غزّة، قصيدةً ولو مسروقةً لأنّنا نستحقُ منكَ قصيدةً حتى ولو مسروقةً، قصيدةً لا تجعلنا سبايا في هذا الزمّان الرخّو، وتُعيدُ لنا طعم الخريف، وبرتقال القادمين من الجنوب، قصيدةً تُسلّي الفؤادَ، وتَهبُنا عمراً لا يشبه ما تَهبُ اللِّئامُ، وتُعطينا دهراً ناسهُ ناسٌ كبارٌ، مُفَتَّحَةٌ عُيُونُهُمُ وليسوا نياما، ملوكا لا أرانبَ، لأنّكَ غايتُنا وسبيلُنا وخليلُنا نحنُ وحدَنا، وإن كَثُرَ تجمّلُ الآخرينَ وكلامُهمْ.
نعم ها هو الجنوب يستيقظُ كلَّ يومٍ على صليل سيوف أصحاب الفتح الأول، ويستفيق كلَّ فجرِ كرامةٍ على ضبح العاديات، وعلى وقع غبار المغيرات، يستنهضُ نجيع جعفر وعبدالله وزيد، يطير بجناحي جعفر الهاشمي القرشي نحو سماء الرفعة والمجد، ويوسم أبناءك ( جعفر وعبدالله وزيد) بلون حنطته، وبرائحة دحنونه وشيحه، ويوشمهم بصوت الصاعدين إلى ربهم أحياء من أهلك الثائرين على الظلم والاستبداد في الهية واللطرون وباب الواد والكرامة، ويعلن في المدى أنَّ ثمة جنوباً لله كلما أراد القلبُ أنْ يتوضأ بالطهر.
نعم هذا هو الجنوب يقسمُ لكَ بأنَّ مستودع السرِّ ليس بذائعٍ لديه، وبأنّ الجاني عنده لا يخذل فكيف بالابن البار والأخ الوفي، وهو يعرف بأنك لست بأعجل القوم أن مدت الأيدي للزاد والغنائم، ويدرك بأنك كنت تستفُّ تُربَ الأرض كرامة وعزّاً كيلا يتطول عليك امرؤٌ متطولُ، ولأنّه عرفك معدنا أصيلا خَاضِبَيْهِ النّجِيعُ وَالغَضَبُ، ولأنّ في ثَوْبِكَ الذي المَجْدُ فيهِ، لَضِيَاء يُزْري بكُلّ ضِيَاءِ.
وها هي الكركُ تستعجبُ من حبِّك لها وتقول: بأنّها لم ترَ في الدنيا عاشقا مثلك، فتجيبها أيها العاشقُ الدَّنفُ: جِدي مثلَ مَن أحبَبْتُهُ تجدي مِثلي، وكيف تجدُ مثلك وأنت ليس مِمّنْ يَدّعي الشّوْقَ قَلبُهُ، وَيَحْتَجُّ في تَرْكِ الزّيارَةِ بالشّغلِ، ولم ترَ أحداً غيرها والأرض أصغرُ من مرور الرمح في خصرٍ نحيلٍ، والأرضُ أكبرُ من خيامِ الأنبياءِ. فيا حبيبها الذي ما زال مقروحَ الجفنِ مسهده، وما زال حيرانُ القلبِ مُعَذَّبهُ، يا من يستهوي الورق تأوهه، ويذيب الصخرَ تنهدهُ. أرجع لها ولتُخلّفْ وراءك تلك المدن التي تسرقُ الأسماءَ منك، وقلْ لها:
هيتَ لكْ
ما أجملكْ
اللّيلُ ليلي وهذا القلبُ لكْ
أيُّها الواقف في جَفن الردى وهو نائم، ويا أيُّها الباسم وقد مرّت بك الأبطال كَلْمَى هزيمةً، لم يبقَ في اللغة الحديثةِ هامشُ للاحتفاء بما نحبُّ، فكُلّ ما سيكونُ ... كانْ، فأنهض لتُنقذ ما تبقى من بقايا أرواحنا المتعبة، وأنقذ شِعْرَنا من تجار الكلمات، وسماسرة الإحساس، وأنقذني أيُّها الكركيُّ النبيلُ من بئر هزيمتي وقلقي وخوفي، فقد سقط الحصان مُضَرّجاً بقصيدتي وأنا سقطت مُضَرَّجاً بدَمِ الحصانْ