عمون - كتب د. خالد عطية السعودي - عُذراً سماحة الأستاذ الدكتور أحمد هليل قاضي القضاة الأكرم.. في العين لسانٌ لا أستطيعُ إسكاته ..لا سيما عندما يتعلّق الأمر بصورة مشرقة عن روحكم الإنسانية بكل معنى الكلمة، فحين يحضر ذكرُك يحضر الأُنسُ والدفء، وحلاوة الحب، وترياق الفرح..!
سمّيته سماحة " البحر " المحيط.. لمعرفتي بسعة علمه، وكبير أخلاقه وخصاله.. ثم تمنيتُ وقلت:" ليتنا نتعلم منك"! فهو أوسع بكثير من الحدود التي يعرفها الناس عنه..
• وهو الذي ولد على أرض الأردنّ الطيبة، وعاش على جبالها وسهولها، وعلى سيف الصحراء تشرّب الأحزان وكابد كغيره من الأردنيين الذين غالبتهم الحياة في صراع كبير وطويل!
• وهو الذي نهل علمه من أرض النبوة ومهد الرسالة، ثم توجه تلقاء "الأزهر" ليستكمل رحلته في طلب العلم، فكان كعادته محباً للمعرفة مقدراً للعلماء، مجتهداً، مثابراً..
• وهو الذي عرفه طلابُه في قاعة الدرس يصدح كل فجر كي يستيقظ الصباح.. عرفه طلابُه منهلاً عذباً كثير الزحام، يغرف شواهده ولطائفه من بحر العلم والمعرفة.
• وعندما أُصيبَ بعضُ أصحاب المناصب بالأنانية، والتحاسد، والشللية، والعمى الإدراكي، واللهث وراء المال والسلطة، والتهاون في القيم الدينية ومعايير المجتمع.. كان هذا " البحر " الذي امتلأ بالقرآن حفظاً وتلاوة وعلوماً وتدبراً.. يفيضُ بالقيم النبيلة والأخلاق العالية والذوق الرفيع.. يُفكّكُ أنساق الكراهية، ويجتثُّ بذور العنف والتطرف..
• وطوال نصف قرن أو يزيد وهو يتصدى لكل أشكال " النكران" و"الإشاعة" و" والوشاية" و"الأسمار" و" الأباطيل" .. ثم يخرج من كل هذا مشترياً للبهجة، ومنفقاً للفرح والابتسامة!
• ولا زال وهو إمامٌ للحضرة الهاشمية يقدم خطاباً إسلامياً متوازناً، يخوض من خلاله معركة البناء التنموي والنهضوي.. يقدم خطاباً يتجاوز الأهواء والأوهام والشعارات.. ويتجاوز الخلافات..! ولا زال يجهر بالحق، ويُذكّرُ بما قدمه ويقدمه الهاشميون للإسلام والوطن والأمة من عناية فائقة ورعاية لائقة.. والوطن والهاشميون في قاموسه عطاء وانتماء..!
• ويوم كان زيراً للأوقاف كان زاوية متحركة، يسعى إلى بلورة خطابٍ ديني رصين، يتسم بالوسطية والاعتدال.. كان الشريان الذي ضخّ دماءً جديدة لميدان الوعظ والإرشاد.. وأضاف علاماتٍ فارقة إلى النسيج الدعويّ في الأردن للقيام بالواجب وتحقيق الرسالة..!
• وعندما أصبح قاضياً للقضاة، سأل السؤال المُلحّ، وهو سؤال النهضة والتطوير، ولا زالت خطواته الجادة تؤكد سلامة إجابته على سؤال "العافية"، واستئصاله لكل الأورام والأوجاع.. حتى أخذ القضاء الشرعيّ مكانته، والمساحة التي تليق به. فقد وضع نصب عينيه العمل لخدمة القضاء الشرعي بما يُعزز هيبته، ويستكمل دوره، وقد يسّر الله- سبحانه وتعالى - له إنجاز العديد مما كان يتطلع إليه في هذا المجال، وكان في طليعته: "قانون الأحوال الشخصية" الذي يعد واسطة العقد في التشريعات الناظمة لعمل المحاكم الشرعية.. والذي حظي بتوافق وطني عزّ نظيره في أي تشريع آخر!
• وعندما يصعد المنبر، فالأروع دائماً هو تلك الدهشة التي تندّ من حروفه، والأجمل دائماً هي القناديل التي تضيء مواطن العتمة، والأبهى دائماً تلك العبارات التي يُحيلها شجرة باسقة مثمرة، والأعجب دائماً سحر الكلمة وموسيقى الشعر وعذوبة الألفاظ التي لا تنفك ترافق أنفاسه!
• أمّا العزيزة " فلسطين" شعبها وأرضها، فلها في وجدان الشّيخ حكاية، تعلّمها الأردنيون في مدرسة الهاشميين الذين بذلوا أنفسهم على أعتاب القدس، والذين يحملون " القضية " مع أرواحهم وأنفاسهم، وما قصة " الكرامة" ببعيدة، ذاك القلب الذي ضخّ الدم الأردني والفلسطيني في وريد واحد! وما زال الأردن قيادة وجيشاً وشعباً على العهد والميثاق يلبون النداء.
• وما حصل في الأقصى المبارك – يا سيدي – أبا محمد .. ذنبك الوحيد فيه أنك صادق بمشاعرك.. هادئ النفس، إيقاع متواصل من السكينة والطمأنينة.. كنت الهدوء وكانوا هُمُ " الإزعاج والضوضاء" كانت حشرجات صوتك تعلو فوق ضجيجهم، وهي ترسمُ لوحةً من: قلب وأرض وماء وآه .. تحكي:
هذه الأرض من الماء إلى الماء ... لنا
ومن القلب إلى القلب ... لنا
ومن الآهِ إلى الآهِ ... لنا
كل "دبّوسٍ" إذا أدمى بلادي .. هو في قلبي.. أنا!
• سيدي، تلك ألسنةٌ اعتادت الصراخ والكذب ودقّ الطبول.. واعتادت أن تحرث البحر، وتزرع البذور في الهواء..! واعتادت اللعب بأبنية اللغة عبر حناجرها السميكة، وخطبها الرنانة.. ولكنّ وقفتك المنبرية الجريئة كشفت حقائق الأشياء، وحقائق الناس، وحقائق العلاقات..! وكشفتْ من أُصيبَ بعمى الألوان، ومن تشابه عليه البقر، ومن اختلط عنده الحابل بالنابل..!
• قَدَرُكَ يا سيدي أنّ "بحر" سماحتك عميق، وأن " قِدر"َ فضيلتك كبير.. فَقَدَرُكَ أن تواجه المواجع أكثر من المسرات.. وقدرك أن تقاوم زحفَ الخيبة والذُّلّ وتعاظم أخبار الحمقى والمغفلين..!
• وبعد هذا كله أيها الشيخ الجليل والعالم النبيل تحمّلت " الانطباعات العُجلى" و" الأحكام السريعة والمتسرعة" و" الغمز واللمز" من طرف خفي، وحسبك قول الله تعالى:" ويل لكل همزة لمزة ".
• ياسيدي أنت تعلم أن " التافهين" هم من يواظبون على خدش نقاء العلماء، ولطالما رقصت الهوامش على جثث المتون، وعبثاً تُحاول الطحالب أن تغتال البحار!
• وبعد،
فأمّا صاحب هذه السّطور، فقد عرفك يوم أن تشرّف عضواّ في "معيتك" وأنت رئيس الفريق الوطني للإشراف على كتب التربية الإسلامية ومناهجها في الأردن.. عرفتك فضاء لإكساب القيم الفاضلة وغرسها وتعزيزها في نفوس الناشئة.. عرفتك مزرعة فكرية تنأى بالمناهج أن تكون أداة تثقيف فحسب، بل أردتْها أداة فهم ووعي وتربية وتقويم..
• وبعد أخرى، فليتنا نتعلم منك:
أن الإسلام ليس انكفاء على الذات..
وان الجهاد ليس دماء وأشلاء.. ليس دماراً أو تدميرا... ليس ضرراً أو ضراراً..
وأن السياسة ليست رسما بالفراغ وليست ضرباً من أحلام اليقظة
وان فقه التنظير غير فقه التنزيل..
وأن العالم ليس عدواً للحاكم..
ليتنا نتعلم منك كيف نقف على الثغور المفتوحة: تكثيف الوعي ، والقراءة المبصرة، وصناعة الفقه والأدب..
وليتنا نتعلم منك الوفاء والإخلاص وحسن الفهم ونفاد البصيرة ودقة التأمل والصدق والتواضع..
• يا سيدي محبتك تتوزعها كل أسرة في أردننا الحبيب، ففيك من الخصال ما لا يقال، طوبى لقبك السليم من الحقد والكراهية، وطوبى لرحيقك المختوم بالحب والسلام.. أسأل الله العظيم أن يوفقك لخدمة دينك وأمتك ووطنك في ظل عميد آل البيت الهاشمي الأطهار الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله وأعزّ ملكه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سماحة " البحر" المحيط... ليتنا نتعلم منك!
بقلم: د. خالد عطية السعودي/ الجامعة الأردنية