تسعة وستون عاما على ذكرى الاستقلال، شهادة ميلاد « البلاد الأردنية « كما تشير وثيقة الاستقلال التي صدرت عن المجلس التشريعي الأردني الخامس، صباح يوم السبت الواقع في الخامس والعشرين من أيار سنة 1946 ، الذي تضمنت أدبيات بحثه ونقاشه وقراراته مفردات تستحق التوقف عندها طويلا لكي ندرك القاعدة المتينة التي قامت عليها الدولة لتظل راسخة فوقها إلى يومنا هذا ، صامدة في وجه الهزات المتتالية التي تعرض ويتعرض لها هذا الإقليم المتحرك على الرمل على مدى سبعة عقود.
هل يخطر بالبال أن نجد نصا أعمق من هذا النص في الحيثيات إذ يرد في موضع الإشارة إلى وقائع تلك الجلسة «ولدى بحث الأماني القومية في ضوء المبادئ والمواثيق الدولية العامة ، وحق تقرير المصير ووعود الأمم المتحدة ومقاصدها ، وما بذلته البلاد الأردنية من تضحيات ومساعدات للديموقراطيات ، وما حصلت عليه من وعود وعهود دولية رسمية ، فقد أصدر المجلس التشريعي الأردني بالإجماع القرار التاريخي » ؟!
ويأتي القرار مستندا إلى الرغبة العامة التي أعربت عنها المجالس البلدية ، واقتراح مجلس الوزراء ، وشرعية المجلس بصفته النائب عن الشعب ، ليعلن عن الاستقلال التام على أساس النظام الملكي النيابي ، مع البيعة بالملك لسيد البلاد ومؤسس كيانها « عبدالله بن الحسين « المعظم ، فأي رفعة هذه في تأسيس دولة ، وأي رجال أولئك الأوائل العظام الذين فهموا معنى الدولة بمكوناتها الترابية والشعبية والنظامية ، وقد أحاطت بهم ظروف لا تقل سوءا عن الظروف التي تمر بها المنطقة اليوم ، وكانت بوادر نكبة فلسطين تلوح في الأفق ، وسطوة القوى الدولية وسكينها تقطع أوصال البلاد العربية وهي ترسم خارطتها الموروثة من العثمانيين.
وما أشبه اليوم بالبارحة ، وإن كان مشهد الحاضر أكثر قباحة ودموية ، وأشد وطأة على النفس لما نلمسه من انهيار أخلاقي لم يسبق له مثيل ، ولكن الأردن بحمد الله هو الأردن قائم على القاعدة السليمة كما هي منذ ذلك التاريخ ، محافظ على كيانه ووحدته الوطنية ومسيرته ومنجزاته ، وقد يختلف البعض في فهمهم لمعنى الاستقلال تحت تأثير انطباعات معينة ، وفي ضوء النظام العالمي الجديد ، ولكن الدرس والعبرة مما يجري حولنا ، يؤكد لنا أن الدولة المستقلة ، هي الدولة القادرة على المحافظة على الوضع القائم منذ صباح يوم الاستقلال ، محتفظة بقوتها في حماية حدودها ، وصون أمن واستقرار مواطنيها ، وأخذ دورها الفاعل في محيطها القريب والبعيد ، والأهم من ذلك كله الوفاء للآباء والأجداد ، والإخلاص للأبناء ، وتمهيد السبل أمام مستقبلهم الواعد ، وحقهم في حياة كريمة آمنة.
لا أقول كما قال الشاعر « والضد يظهر حسنه الضد « فليست المقارنة بالدول المنهارة من حولنا ، تليق بأن نجعلها مقياسا لما هو عليه بلدنا من قيمة موضوعية ، فتلك المقارنة تؤلمنا ، ولكن لا شيء يمنعنا من أن نتعمق في مرحلة ما قبل وصول تلك الدول إلى الحالة التي وصلت إليها ، نتيجة الحكم الدكتاتوري ، وعدم احترام الإرادة الشعبية ، والتفرد في اتخاذ قرارات مصيرية ، وحسابات مغلوطة ، وتدني الانتماء الوطني كنتيجة طبيعية لاختصار الدولة في شخص الرئيس !
لدينا نموذج أردني فريد من نوعه ، وحتى نخرج من الصورة المشوهة ، تعالوا بمناسبة ذكرى الاستقلال إلى وقفة تأمل تؤهلنا إلى فرحة مشروعة ، فنهنئ بعضنا بعضا ، ونقول حمدا لله على سلامة الوطن. الرأي