إذا رأيت نيوب الليث بارزة ..
أ.د. عصام سليمان الموسى
24-05-2015 02:36 PM
نستذكر الراحل الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد وجها ثقافيا مضيئا أعلت اسهاماته قامة الأردن الفكرية عربيا، اضافة إلى انه كان تربويا صارما ومفكرا قوميا أثرى الثقافة العربية ببديع رؤيته بإدارته لمؤسستين لعبتا دورا هاما في الحياة الثقافية الأردنية هما: تأسيسه الجامعة الأردنية، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الاسلامية، وذلك بين عام 1962 وحتى مطلع القرن الحالي على مدار نصف قرن تقريبا.
في اليوم الأول للدراسة في الجامعة الأردنية في 15 كانون الأول 1962، وبعد ان قرع جرس الجامعة معلنا بداية الدراسة، جاء الدكتور ناصر رئيس الجامعة بطلته المهيبة، وألقى كلمة رفيعة بليغة ورحب بنا، وتميز دائما بوسامته وأناقته ومشيته الجادة.
ولدهشتي اكتشفت، بعد ان كنت بعيدا لفترة ادرس في كلية (جامعة) بيرزيت التي عدت منها لعمان للالتحاق بالجامعة الأردنية ان الدكتور ناصر جار لنا يقطن في شقة مقابلة لمنزلنا في جبل الحسين، ربطته مع والدي رحمهما الله صداقة طويلة، وزارنا معايدا في منزلنا في جبل الحسين في يوم عيد الميلاد عام 1962 بعد بداية الدراسة في الجامعة. وقمت بأعمال الضيافة كالمعتاد في هذه المناسبات، فقدمت في البداية (القهوة السادة) من ابريق نحاسي شامي الصنع، حملته بيدي اليمنى وحملت الفناجين باليد اليسرى. كان برفقة الدكتور الأسد شخص لا اذكر من هو الآن، فعلق مازحا ان ابريق القهوة يجب ان يحمل باليد اليسرى ويقدم فنجان القهوة باليد اليمنى. تبسم الدكتور ناصر ودارى ارتباكي مما قاله الضيف بكلام مجامل.
في السنة الثانية في الجامعة، درسنا على يده مادة تاريخ الأدب وقرأنا باستمتاع كتابه (مصادر الشعر الجاهلي). كان شخصية جذابة ، بينما بالمقابل درسنا مادة النصوص على يد دكتور آخر كان حرفيا وكانت محاضرته جافة ، فرسبت في مادته، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي حملت فيها أكمالا في حياتي الدراسية.
ما زلت اذكر غضبة الدكتور ناصر الدين الأسد حين اكتشف القائمون على المكتبة ان احد الطلبة قد مزق ورقة من موسوعة في المكتبة وكانت تشغل الطابق الثاني من البناية الرئيسة في مستنبت الجبيهة الذي استملك للجامعة. لم تكن هناك الآت تصوير كما في وقتنا الحاضر، ويبدو ان الزميل استسهل قص الورقة، بدل نسخها، ودسها بين أوراقه ظنا منه ان أمره لن ينكشف. لكن ما حدث كان العكس تماما: ففي محاضرة الأدب العربي، جاء الرئيس الدكتور ناصر الدين ينتفض غضبا ووبخنا بشدة، وشدد على ضرورة الحفاظ على كتب المكتبة. يومها ردد الطلبة بيت شعر للمتنبي:
إذا رَأيْتَ نُيُوب اللّيْثِ بارِزَةً
فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ
كانت الدراسة صعبة وجادة لفوجنا واثناء ادارة الدكتور ناصر الدين بنيت على فلسفة التركيز على الكيف لا على الكم، عكس ما حصل بعد ذلك. لكن فصل حوالي مائة طالب في نهاية السنة الأولى لم ينجحوا بالامتحانات، كان يمثل قبضة متشددة بأي مقياس. لقد بقي عام 1963 عاما فارقا في حياة طلبة الفوج الأول في الجامعة الأردنية لأنه شهد تفتح وعيهم على الحياة العلمية الجادة والرصينة.
التقيت بالدكتور ناصر بعد عقدين ، وكنت اعمل في قسم الصحافة والاعلام في جامعة اليرموك، في مكتبه في المجمع الملكي للحضارة الاسلامية، وهو المجمع الذي أداره باقتدار وأرسى ثقافة متميزة. جاء اللقاء إثر قرار نشر لجنة تاريخ الأردن المنبثقة عن المجمع لكتابي (تطور الصحافة الأردنية 1920-1997). واستقبلني بلطفه المعتاد ورحب بي بحرارة وأهداني أحد كتبه، وقال انه يذكر طلبة الفوج الأول باعتزاز. ولا بد من الاعتراف ان المجمع قد اختط بادارة الدكتور ناصر مسارا راقيا للثقافة الأردنية والعربية والاسلامية برؤية حكيمة أغنت المكتبة بمؤلفات رصينة كتبها باحثون اردنيون في مختلف المجالات في ظاهرة لم تتكرر في تاريخ الوطن.
اتصلت آخر مرة بالدكتور ناصر الدين في 13/12/2012 حين هاتفته في منزله لأخبره ان لي مقالة نشرت في جريدة (الرأي) ذلك الصباح تتحدث عن ذكرياتي في الجامعة الأردنية بمناسبة مرورنصف قرن على تأسيسها، رد علي بنفسه وفاجأني بقوله انه قرأ المقالة في الصباح الباكر، وأضاف انها كانت أفضل ما قرأ عن ذكريات تلك السنة.
"الراي"