احيانا يكون الانتحار العقلي أنكى وأشد من الانتحار الجسدي، وكذلك الاغتيال، فهو قد لا يطال الجسد لكنه يستهدف الفكرة او الذاكرة، لهذا كان كاتب فرنسي يزهو على انداده الاوروبيين قائلا إن بلاده اخترعت المقصلة كي تقطع الرأس بعكس غيرها من البلدان التي تقطع اللسان فقط وتبقي صاحبه حيا وأخرس.
ما يحدث الآن هو اغتيال الذاكرة تدمير الاطلال والآثار والتماثيل، اغتيال للذاكرة وكذلك التجهيل المبرمج الذي يقدم نفسه تحت قناع مزخرف، وكأن هناك جهات في هذا الكوكب تصاب بضيق التنفس والاختناق كلما احست بأن هناك شعوبا تتذكر ولها جذور لهذا تسعى الى اعادة البشر الى اول السطر وبدء الخليقة.
ان تجليات اغتيال الذاكرة عديدة ولا تتوقف عند تدمير المتاحف وازالة الاثار الممهورة ببصمات اسلاف انجزوا حضارات وعلّموا البشرية القراءة والكتابة واحيانا علموها الصمت على طريقة ما سماه النفّري: كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة، والعكس صحيح ايضا فكلما ضاق الفكر وانحسر تكون الثرثرة تعويضا!
ان اغتيال الذاكرة هو تجريف للتاريخ وعودة الى الكهف، وحين تسقط القوانين والشرائع ومنظومة القيم التي كابدت البشرية عدة الفيات من اجل ترسيخها يصبح كل شيء مباحا ومُتاحا، فلا كوابح من اي نوع، ولا مفاهيم يمكن الاحتكام اليها.
الطلل او الاثر التاريخي الذي قاوم عوامل التعرية زمنا طويلا هو بمثابة توقيع لمن شيدوه وارادوا الامتداد من خلاله الى احفاد الاحفاد! وأسوا ما تتسم به الحرب القذرة على الذاكرة هو ان المعتدى عليه مجرد حجر او برونز لا يستطيع الدفاع عن نفسه وتدميره ليس انتصارا بالمعنى الدون كيشوتي، وحين يتصور اعداء الذاكرة ان ما يفعلونه يعيد الانسان الى الصفر فانهم واهمون لأن ما تبقى من منجزات الماضي تحول الى انماط تفكير وسلوك، لكن ما نخشاه رغم هذا التسارع في التقدم التكنولوجي ووسائل التواصل هو ان نضطر ذات يوم الى حفظ الكتب عن ظهر قلب لأنها مهددة بالحرق اذا كانت ورقا وبالقرصنة اذا كانت عبر وسيلة اخرى تماما كما وصف هذا المشهد الكاتب براد بوري في روايته الشهيرة 451 فهرنهايت! الدستور