نمطٌ عزيزٌ في الرجال وراحلٌ مقيم
ابراهيم العجلوني
22-05-2015 02:32 AM
أخيراً، وبعد صراعٍ ملحميٍّ من الآلام، صراعٍ لم يلفت الرائد المُعَلِّم عن مهماته التربويّة والمعرفيّة والأخلاقيّة، ولم يفلح في إسقاط قلمه المشرع في وجه الجهل والظلم والتخلّف...
أخيراً لبّى أستاذ أجيال الأردنيين وشيخ العربيّة وآدابها المُعلِّم ناصر الدين الأسد نداء ربّه الذي آثره واصطفاه صبيحة أمس الخميس الموافق للحادي والعشرين من أيّار عام خمسة عشر وألفين للميلاد، الموافق للثاني من شعبان 1436 للهجرة.
لبّى رحمه الله النداء الخالد بعد أن قدّم بين يدي رحيله ما نرجو أن يتبوّأ به مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، من صفحاتٍ مضيئاتٍ، يدفع بها عن حياض هذه الأمّة العربيّة الإسلاميّة، ويجلّي محاسن آدابها وثمرات عقولها، ويقيم لأجيالها أنموذج النظر المحقِّق ومثال البحث المدقّق، ويرهف منها الذائقة، ويضبط معايير الفهم وآداب التفهّم، ويدأب وُسعه في أن يتركها على المحجّة البيضاء من دينها ويقينها. وإنّ مما يستيقنه تلاميذ ناصر الدين الأسد، وأصدقاؤه، ومحبّوه، وكلّ من تعرّف إليه أو أمكن له تنوّر سجاياه، أن ثمّة دوائر منداحة من شخصيّة الرجل العظيم، معرفيّةً وأخلاقيّةً وإنسانيّةً ورافة الظلال، تجعل من حياته حيواتٍ، وتمتد بحضوره البهيّ إلى أقصى آفاق العطاء، وتجعله في الجملة ذِكراً لقومه ومنارةً تهيب بهم على مفارق العصور.
ذلكم هو ناصر الدين الأسد، يتركنا بعد أن أقام لنا الموازين وحدد المعايير، في المعرفة والأخلاق والوطنيّة الحقّة التي ترى إلى الأمّة في مجموعها، وفي أبعادها التاريخيّة والقيميّة. وها هو ذا يستقبل من آخرته ما كان قدّمه للعرب والمسلمين في مدى عمره الذي أشرف على الرابعة والتسعين، وما كان قدّمه للإنسانيّة كلّها، بما شيّده من منابر الحوار بين أبنائها على اختلاف أعراقهم وألسنتهم وأديانهم، ثمّ بما أقامه في هذا الحوار من عمود الثقة بالنفس وبمنجز الأمة الحضاري، وبما تملك أن تؤديه من رسالة هديٍ ورحمة للعالمين.
ذلكم هو ناصر الدين الأسد، الأستاذ، والوالد، والركن الذي اختطفه الموت من بيننا، والذي خاطبته رحمه الله في آخر قصيدةٍ لي، قائلاً، وقد بكيتُ بين يديه جراح الأمّة التي نذر لها عمره الميمون:
أما والذي أبقاك فينا منارةً
وضوّع من أعطافك الطيب والهدى
لقد كان هذا الدمع صعباً مراسُهُ
وأجدر أن يحتدّ عزماً مُسدّدا
فما كلّ تطراف العيون صبابةً
فقد يطرف الليث الهصور توعُّدا
وقد يكظم الندب الشريف كلومه
ويصبر للجلّى اصطباراً مجدّدا
وما هي إلا نباةٌ تفجأ الدّجى
فتستكره الظلماء صبحاً مؤكّدا
وبعدُ، أبا بشرٍ، فما أنت لائمي
فتلك تباريحي، وهذا هو الصّدى
وقد كنت ذا فضلٍ عليَّ ولم تزل
فبوركتَ مفضالاً وبوركتَ سيّدا
أجل سيّدي أبا بشر
وعسى الله أنم تُنعّم، كفاء ما قدّمت لأمتك، في الجنان، وأن تستبدل بجوار هذا الخلق جوار ربّك الرحمن..