للتقدم كمفهوم إنساني شكلان ، ألاول مادي بحت تنحسر علاقته بالمنظومية القيمية الى أبعد حد ، والثاني معنوي يفضي طبيعيا إلى تقدم مادي ملموس ضالته إسعاد البشر ، والسبب هو تشبثه التام بتلك المنظومة في كل الظروف والأحوال ، في حين يتمترس التقدم المادي عند المادة دون القيم ، والسبب هو إنفصاله عن بوصلة التقوى ، بمعنى ان الغاية المادية تبرر الوسيلة حتى لو كان فيها شقاء بشر ، أو سعادة بشر على حساب بشر آخرين .
عربيا ، يتحقق التقدم المادي الصرف كل يوم ، مالا ومقدرات ومباني وشبكات طرق وإتصالات ومدارس وجامعات ومصانع ومؤسسات ، الى غير ذلك من أشكال التقدم المادي المذهل والمتسارع ، لكنه تقدم يفرز وفي كل لحظه ، تراجعا كبيرا في سيادة المنظومة القيمية التي نشأ بعضها مع العربي فور نشوئه ، ومنها الكرم والفروسية والنخوة والشهامة وغيرها ، وبعضها الآخر ، جسدها الإسلام في الذات العربية ، ومنها العدل والفضيلة والمساواة والصدق والصفح والتعاون والتكافل ، إلى غير ذلك من القيم الدينية العظمى .
مصيبة العرب لو جاز التعبير ، هي في إنجرارهم خلف الحضارة المادية الغربية بإندفاع شديد ، وعلى حساب حضارتهم الأم ، مستمرئين الراحة وحب القعود ، ما دام غيرهم يتعب ويفكر ويبدع في توفير سبل الرفاه والعيش الرغيد لهم مقابل المال ، فالاجنبي يبحث عن المال ، والعربي يبحث عن تكنولوجيا جاهزه ، وعن مأكل وملبس ومسكن وسيارة وسلاح وكل متطلبات العصر جاهزة دون عناء يذكر ، ولهذا غدت اسواق العرب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وسواها ، مرتعا خصبا لمخرجات عقول الغرب ومنتجاته ، وغدت خزائن الغرب في المقابل مخزنا لكل ما جاد به الله على العرب من خيرات واموال طائله .
مصيبة العرب تلك ، أثمرت مصائب لا تحصى ولا تعد ، فهم برغم ما لديهم من وسائل ً التقدم ً الغربي الماديه ، متخلفون وإرهابيون في نظر الدنيا ، ولا حول لهم في التعامل مع اي مستجد في حياتهم ، إلا من خلال الاجنبي وعونه وتدخله الذي لا يخدم بالضرورة سواه ، وهذا نظريا حقه ، والطامة الكبرى ، اننا ننشد عونهم وتدخلهم لحل قضايانا ، حتى ونحن نسبهم ونشتمهم لا بل ونكرههم ، وفي ذلك مفارقة عجيبة لا تفسير لها ، سوى أننا عاجزون مشللولون فاقدون بالمجمل لكل قيمة جليلة في هذا الوجود ، ومن هنا بتنا نستمطر عطف من نكره ، وعطف وتدخل من نعتقد بانه سبب مصائبنا .
الغرب له نمط حياته الخاص به ، وعنوانه الديمقراطية التي إختارها نهج حياة إجتماعية وسياسية وأسلوب حكم وتداول للسلطة وهو بها سعيد ، واحدث مخرجاتها مثلا ، رئيس وزراء دولة يتزوج صديقه ، وعلى نحو يثير أشمئزازنا نحن العرب عندما نقرأ ونسمع أخبارا من هكذا نسق ، وفي المقابل ، نحن بلا هوية ، ومجرد مقلدين لا أكثر ، منقطعين عن حضارة أجدادنا ، مترفعين مجازا عن نمط حياة عربية كان يجب ان يتطور عربيا ، تماما كشعوب أخرى على هذا الكوكب ، منها اليابان والهند وباكستان وكوريا الجنوبية والصين مثلا ، لكننا بلا هوية محدده ، فنحن كل شئ ، إلا ان نكون عربا .
نعم ، الغرب إختار الديمقراطية للتخلص مما أسماه في حينه ، هيمنة الكنيسة على حياة الشعوب ، ونحن حاول بعضنا لبس لبوس الديمقراطية ولكن على طريقتنا العربية التي جعلت منها ، وبالا على معظمنا إن لم نكن كلنا ، فهي في فهمنا تعني حرية كل منا ليفعل ما يشاء ساعة يشاء وكيفما شاء ، وليذهب غيره الى الجحيم ، وبذلك صارت نصف ديمقراطيه ، أي كمن تعلم كيف يطير وطار ، دون ان يتعلم كيف يهبط ، فقد أهملنا الشورى التي طبعت حياة اهلنا العرب الاوائل وإعتبرناها من الماضي ، ولم نفلح في مقاربة الديمقراطية على أصولها الحقه .
في ظل هكذا واقع ، لسان حالنا يقول ، أننا كمن غادر بلده عازما السفر الى بلد آخر ، تجاوز نقطة الحدود في بلده الى المنطقة الحرام الفاصلة بين بلده والبلد والآخر ، ثم توقف هناك وألى الابد ، فلا هو في عرف السفر غادر بلاده ، ولا هو وصل البلد الآخر ، أي صار في موقع خارج نطاق القانون والنظام العام لأي بلد ، وهنا تبلدت معاناته ، ولا حول ولا قوة ألا بالله .
أقسم بأن لدينا حضارة ليس كمثلها حضارة على وجه الارض ، لكنها حضارة معطلة تماما بعد إذ تخلى عنها أتباعها ، هي حضارة عظيمة في بلاد عظيمة ، ولو لم تكن كذلك ، لما تكالبت عليها الأمم ، وبالذات القوى الكبرى التى تجيد صيد الفرص ، والتي جعلت منها في ظل هذا التكالب ، فرجة للكوكب كله ، ومسك الختام القول ، أليست ارضنا وبلادنا أرض الرسالات ومهوى أفئدة سكان الكوكب جميعا ومصدر الطاقة للبشرية كلها ، وبإرادة خالق الكون جل في علاه ، فهل يليق بها وبنا إذا ، أن تكون ارض القتل والدم والتشرد والتخلف والضياع ، وان نكون نحن معاول الهدم والقتل والدم والتشرد والتخلف وكل ما هو ردئ في هذا الوجود ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وهو من وراء القصد .