شهدت معان منذ عام 1989 سلسلة من أحداث العنف المركبة سياسياً واجتماعياً، ورغم تكرار المشهد الذي ساهم أخيرا في الإطاحة بوزير الداخلية، ومديري الأمن العام وقوات الدرك، فان الحكومات المتعاقبة لم تحسن التعامل مع هذا الملف الشائك، ولم تستطع تجاوز التفسير الأمني لما حدث ويحدث، وأخذ العبر والدروس.
والغريب في الأمر انه عندما سارعت – ولأول مرة - مراكز الأبحاث القريبة من الحكم، كمركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية، لدراسة بواعث وأسباب أحداث معان التي حصلت في تشرين الثاني عام 2002، فان الدوائر الحكومية العليا أخذت تشكك ليس فقط بالنتائج التي خرجت بها الدراسة، وإنما شككت أيضا بدوافعها ومراميها، وأنكرت عليها حتى فضل المبادرة، من خلال الحديث عن أن الحكومة – حكومة أبو الراغب آنذاك - كانت أول من شكل لجنة خبراء لدراسة أوضاع المدينة!
وصدرت تصريحات حكومية بعبارات الامتعاض وعدم الرضا عن التقرير الذي أعده مركز الدراسات الإستراتيجية بعنوان "معان أزمة مفتوحة"، والإصرار على أن مشكلة معان أمنية وليست سياسية أو اقتصادية واجتماعية، وأن لا خصوصية لمعان باستثناء موقعها الجغرافي !
أما الدراسة التي وضعتها المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات حول "تحديات الإصلاح السياسي: دمقرطة الأردن وعدم الاستقرار الإقليمي"، فقد استنتجت أن أحداث معان 2002، والتي سقط فيها ستة قتلى، قد أكدت على الخطورة المترتبة على عدم معالجة انعدام الثقة بين السكان المحليين، والسلطات المحلية، والدولة بصورة أعم، وبما أن معظم الظروف التي سادت معان لم تكن فريدة من نوعها، فانه يمكن لتلك الأحداث بالذات أن تتكرر في أماكن أخرى من المملكة (أحداث الخبز 1996).
ومع أن المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات تؤكد في ورقتها أن البلد ليس مهددا بصورة رئيسية، إلا أنها تضع علامات استفهام كبيرة على أسلوب إدارة الدولة للأزمات، وتقول :" كيف ستجري إدارة الأزمة التالية بسلام طالما أن الرابط بين الدولة والفرد يبقى هشاً، وتبقى مشاعر السخط في غليان مكبوت". وهو ما استمر فعلا، بالرغم من وضوح الأسباب والتشخيص.
وتقترح الورقة نفسها بناء على حصيلة عدد كبير من المقابلات مع شخصيات أردنية وخبراء تعزيز عملية الإصلاح ولا سيما في المجال الانتخابي، بشكل يفسح المجال بصورة أفضل للتعبير عن التركيبة الديمغرافية، وتحسين تمثيل الأحزاب السياسية على المستوى الوطني. وهو ما لم يحصل حتى الآن!
ولمعالجة القضايا التي أثارتها أحداث العنف في معان، تقترح الورقة اعتماد أسلوب جديد في العلاقة ما بين المواطن، وقوات الأمن، وتطوير البنية التحتية الأساسية في معان والمدن الصغيرة الأخرى التي تعيش ظروفاً اقتصادية مشابهة، وتنفيذ برامج للتدريب المهني وبناء القدرات، وتعزيز مهارات الشباب الفنية، وتوسيع استثمارات القطاع الخاص في المحافظة. هذه الأفكار وغيرها لم تغادر الورق حتى اللحظة!
وجاءت الإقالات الأخيرة لتؤكد من جديد أن معيقات تقدم الأردن وازدهاره لا تعود فقط لصغر حجمه الجغرافي أو السكاني، أو لفقره بالموارد الطبيعية الكافية، كما أن هذه المعيقات ليس مصدرها فقط الأوضاع الإقليمية المضطربة المحيطة بالأردن.
إنّ المعيق الرئيسي – قبل العوامل المشار إليها – هو في الذهنية الحكومية السائدة، تلك الذهنية البيروقراطية المترهلة والمحافظة التي تخشى مشاركة المواطنين، وهي ذهنية نخبوية تصر على احتكار عملية صناعة القرار على مختلف المستويات، وتخشى على نفوذها ومصالحها من أن تتضرر جراء عملية توسيع قاعدة المشاركة.
وبالتالي فلا بديل من إنهاء التردد والتلكؤ في اعتماد سياسات إصلاحية تدفع البلاد قدماً الى الأمام، ولن يتحقق ذلك إلا إذا اقتنعت الحكومة أن ميدان التغيير المنشود ليس فقط "البزنس"، وإنما الإصلاح السياسي المفضي الى التنمية الشاملة، ومحاربة الفساد والترهل في أجهزة الدولة المختلفة.
أما أبرز مستلزمات هذه التنمية، فهو قانون أحزاب متطور، وقانون انتخاب متقدم يستوعب إمكانية خوض الأحزاب السياسية للانتخابات على قاعدة القوائم النسبية التي تعطي لكل قائمة عددا من المقاعد يساوي نسبة الأصوات التي حصلت عليها في المجموع، مما يدفع الى تحفيز فئات جديدة من أفراد المجتمع وفعالياته النشيطين في العمل العام على الانخراط في العمل الحزبي الذي يمتلك البنية السياسية والبرامجية التي تتيح له أن يكون جزءا من عملية تداول السلطة. ويمكن كمرحلة أولى تخصيص ما نسبته 25 – 30% على الأقل للقائمة النسبية، بحيث يكون لكل مواطن صوتان الأول لمرشح في الدائرة، والثاني للقائمة الحزبية.
لقد استنزف الأردن نحو ربع قرن من المراوحة في المكان، والإحجام عن إجراء إصلاح سياسي شامل يرسي الأرضية لديمقراطية مستدامة. تجدد دماء الدولة والنظام السياسي، وتبني عقداً اجتماعياً جديداً مع الشعب...
إنّ الأزمة الراهنة تعود ابتداء الى أسلوب تشكيل الحكومة التي حكمها ما حكم الحكومات السابقة من اعتبارات المحاصصة لمراكز القوى المهيمنة على عملية صنع القرار، الأمر الذي أنتج سلسلة من الخطوات والمواقف والإجراءات والقرارات الخاطئة وغير المدروسة.
وبعبارة أخرى فان أداء الحكومة ما هو إلا نتاج النهج التجريبي الذي تحكمه الاعتبارات الوقتية، والمصالح الآنية، التي لا يمكن تفسيرها إلا باستمرار ذهنية إدارة الأزمة بدلا من نهج التصدي للطبيعة الهيكلية للازمة المستحكمة في البلاد منذ عام 1989 على الأقل، فهل ستبقى الأزمة مفتوحة؟!
• عضو رابطة الكتّاب الأردنيين