سيل من الذكريات .. الراحل الصديق علي علّان
اسعد العزوني
21-05-2015 02:14 AM
التكافل والتضامن، لا يعنيان فقط جمع ما تيسر من المال لنجدة ملهوف أو منكوب، بل الوقوف إلى جانب من تعرض لمكروه أو فقد عزيزا، حتى لو كان قويا يتحمل تبعات الصدمة.
وتجلى ذلك مساء الاثنين الماضي في جمعية حلحول - الخليل في العاصمة عمّان، حيث تنادى رجالات حلحول والقضاء، تكريما لأسرة الفقيد علي علّان، الذي انتقل إلى رحمته تعالى قبل أيام في حلحول - فلسطين، ودعيت من قبل نجله السيد ربحي علان، لتناول طعام العشاء الذي أقيم بمبادرة من جمعية حلحول.
وبالمناسبة فإن الفقيد رحمه الله، كان صديقا شخصيا للعائلة، وربطتني به علاقة شخصية ولهذا قصة لا تنسى، وبدأت الحكاية عندما حفرت السلطة بئر ماء في بلدتي عزّون منتصف ستينيات القرن المنصرم، وراج أن المنطقة فيها "كاز" نفط، وذلك من خلال نتائج فحوصات التربة التي كانت عيناتها ترسل إلى أمريكا.
بدأت الإشاعة تكبر، فمن الحديث عن وجود النفط، رأينا مجموعات من الخبراء تجوب المنطقة، ويسجلون ملاحظاتهم، وبعد ذلك رأيناهم يرسمون دائرة كبيرة بالقناطر المطروشة بالشيد الأبيض، ومن ثم صغرت الدائرة شيئا فشيئا، وقيل أنهم حددوا مكمن النفط "البئر"، وكان في أرض والدي رحمه الله، وترجم كل ذلك إلى حقيقة واقعة بعد أن جلبت شركة "ميكوم" الأمريكية للتنقيب عن النفط، حفارتها إلى عزون، وتم تركيبها على الأرض، وكانت هذه الشركة قد حفرت بئرا لنفس الغاية في حلحول، ولكنهم أقفلوه فجأة ، وجاءوا إلى عزون.
من هنا بدأت قصة علاقتنا المميزة مع الراحل علي علّان، الذي كان يعمل خبيرا مع الأمريكيين، وبعد أن توطدت علاقته مع والدي، أصبحت تربطني فيه علاقة مميزة، حيث كنت يافعا سريع الحركة، وكنت أحضر له ولمن معه في الغرفة خبز الطابون والطعام من البيت ، وكان يحضر لنا الطبيخ من حلحول، ويطبخ احيانا القدرة الخليلية المشهورة، وهذا ما جعل العلاقة عائلية، وقد قمنا بزيارتهم في حلحول، وتبين أننا نعود في أصولنا إلى جبل الخليل، وهذا ما ميزنا بقساوة الرأس كما يقولون، ولكن في الحق، وكنت دائم السؤال للراحل علّان عن الكاز والحفارة الأمريكية، كما كنت أحتك بالأمريكيين كوني كنت أعرف اللغة الإنجليزية.
نعود إلى قصة الحفارة التي نقلت المنطقة بأسرها إلى إلى واقع آخر، حيث حركة السوق الضعيفة كما هو الحال في القرى، وكان ذلك لكثرة العاملين مع الحفارة، وقد أحيت الليل البهيم بالإضاءة الشديدة والصوت المجلجل، لأنها كانت تعمل 24 ساعة.
كانت فرحتي كبيرة لعدة أسباب أهمها أنني سأصبح شيخ نفط غنيا، إضافة إلى إختلاطي بالخبراء الأمريكيين
وحديثي معهم بالإنجليزية، وكنت أقدم نفسي إليهم بكل الفخر أنني ابن صاحب الأرض.
فجأة توقف هدير الحفارة، وخفتت الأضواء الساطعة، وغرقنا من جديد في بحر لجي من الإشاعات حول ما جرى، خاصة وأن الحاج علي علّان وزملاءه أخبرونا عما جرى في حلحول.
من الإشاعات التي سمعناها أن بئر عزون النفطي، كان يقع على نفس خط بئر رأس العين الذي تستغله إسرائيل، وقيل أيضا أن طائرة مروحية إسرائيلية هبطت بعد منتصف الليل في محيط الحفارة، وكانت تقل جنودا مدججين بالسلاح، جابوا دائرة الحفارة الضيقة ثم رحلوا دون أن نعرف شيئا مما فعلوه في تلك الزيارة الليلية، وبعد ذلك توقف الحفر نهائيا، وعدنا كما كنا نشكوا من ظلمة الليل وننعم بالهدوء.
ذات يوم وبينما كان والدي رحمه الله يفلح في الأرض التي بقيت صالحة للزراعة، وإذا برجل يقود سيارة شيفروليه أمريكية بنمرة كويتية، يتوقف عنده ويسأله عن موقع البئر الذي حفره الأمريكيون.
اصطحبه والدي سيرا على الأقدام إلى حيث فوهة البئر المغلقة والتي كان الوالد قد أعد ركوة صغيرة بخيط طويل جدا، وأنزلها في البئر ليكتشف ما يدور في أعماقه وأخرجها مليئة بالماء.
سأل الرجل والدي عن آخر مادة خرجت من باطن الأرض قبل أن يوقف الأمريكيون الحفر، فأخبره الوالد أن مياها حمراء سبقت الإغلاق، وعلى الفور سأل الرجل عن مصير تلك المياه وماذا فعل الأمريكان بها، فأخبره الوالد أنهم أعدوا لها حفرة واسعة في طرف الأرض الشمالي، وبعد ذلك طلب الرجل من والدي أن يأخذه إلى تلك الحفرة، ثم بدأ بفرك التراب الناعم وشمه، ليقول لوالدي بلهجة الواثق: يا حاج عندكم نفط.
استغرب والدي وسأله كيف عرف بوجود النفط ؟ فأخبره أنه يعمل خبيرا في النفط في منطقة الفحاحيل بالكويت ويعمل في مجال الحفر والتنقيب، وأن النفط عادة يعقب هذه المياه الحمراء.
بعد الإحتلال الإسرائيلي البغيض للضفة الفلسطينية، إستدعى الحاكم العسكري الإسرائيلي والدي إلى مكتبه في قلقيلية، وتودد له في البداية وعرض عليه شيكا مفتوحا لقاء أن يوافق والدي على بيع أو تأجير "خلة السنام" التي يقع فيها بئر النفط المغلق.
ذهل والدي من هذه الوقاحة الزائدة ، وأعلن رفضه المطلق حتى لو قدموا له مال قارون، فما كان من الحاكم العسكري إلا العزف على وتر العاطفة دون أن يعلم أن من يجلس قبالته جبلي مستقيم لا تهزه النوائب ولا تغريه العروض السخية.
قال الحاكم العسكري إنه في حال موافقة والدي على بيع او تأجير الأرض، فإنه سيأمر بالموافقة على إعادتي إلى البلد، وأن أكبر "عرص" في إسرائيل لن يجرؤ على إعتراضي، لكن والدي صدمه بإنكاره لي، وأكد له أنه ليس له ابن اسمه أسعد!!
جن جنون الحاكم العسكري وتناول وهو في ثورة غضب شديدة ملفا ضخما وعرضه على والدي، وقال له :أليست هذه هي صورة ابنك؟
فرد عليه والدي : صحيح أنه ابني ولكن إذا كانت عودته لي مقابل خسارة الأرض، فإنه سيتخلى عني في سبيل التمسك بالأرض، وعندها ثار الحاكم العسكري في وجه أبي مجددا وبصق عليه وطرده من مكتبه.
وبالمناسبة فقد تعرفت على السيد ربحي علّان، نجل الراحل علي علّان قبل يومين وبالصدفة المطلقة حيث كنت أعمل على تحقيق صحفي عن الذهب وإكتشفت أنه نقيب تجار الحلي والمجوهرات الأردنيين، كما إكتشفت أن الولد سر أبيه فقد كان مستقيما جريئا ودودا على شاكلة أبيه.