"الكتاب مكتوب من مدة" والجاهة مسرحية
سليمان الطعاني
19-05-2015 04:53 PM
ان سيكولوجية الفرح المبالغ فيها عند العائلة الأردنية عند تزويج "الولد" تدعو أهل الولد لحشد وجه "بوكسة" العشيرة لدواعي اجتماعية تقليدية تستدعيها نفسيات "الفشخره " لاظهار نفوذ وسطوة ووزن العريس وأهله، الأمر الذي يستدعي تحشيدا مضادا واستنفارا مماثلا من طرف أهل العروس، كيف لا وهم أهل الحسب والنسب، وهم الذين لم يعثروا أهل العريس على غيرهم لهذا النسب المشرّف! وكلما كانت الحشود ضخمة ومن العيار الثقيل، وزراء سابقين، أصحاب دولة، ضباط كبار غالبا ما يكونوا متقاعدين، كلما كان للجاهة هيبة وسطوة، وقد يتم الاستعانة بأصدقاء من الوزن الثقيل أيضا ولو كانوا في محافظات أخرى، لكن وجودهم يزيد الموضوع أهمية ويضفي على الجاهة المزيد من المصاقية.
تتقاطر قافلة الجاهة ليشهدوا لأهل العروس، كشهود إثبات بأن هذا الولد "العريس" على قدر كبير من الخلق والسمعة الطيبة، حسن المعشر والسيرة والسلوك وأن العروس في أمان وستلقى طيب المعشر، وحسن المآل، طبعاً المكان صالة واسعة او "صيوان" أعد خصيصا لهذا الغرض، الزمان غالبا ما يكون بعد صلاة العصر، يرتدي المشاركون في الجاهة الزي العربي التقليدي والبعض الاخر البدلات الرسمية، ولا تقبل المناسبة اقل من هذا "يكد" اهل العريس الى مضارب اهل العروس وبعد اكتمال النصاب وجلوس الجميع تحين اللحظة الحاسمة، يطبق صمت تام على الحضور، يتململون في جلساتهم، يتوقفون عن الكلام و ينظرون بترقب إلى جهة الرجال المهمين، يتوقعون أن تصدر عنهم إشارة بدء الفعاليات.
في المقدمة يجلس الرجال ذوو الشأن، أولئك الذين لوجودهم معنى أكبر من وجود كل الرجال الآخرين وحضورهم يعطي الثقل للمناسبة. هم الممثلون الرئيسون في هذه المسرحية. يجلسون في مقابل الرجال الآخرين متأهبين يسترق كل من الطرفين السمع من الطرف الآخر وعيونهم تتلصلص على بعضهم البعض يهمس كل منهم مع من بجانبه ويغمز في الآخر،
تتركز الانظار باتجاه من يأتي بدلة القهوة العربية التي تم تحضيرها، بعناية تسكب في فنجان صغير وتقدم لأحد الرجال الطاعنين في السن والذي يجلس مع المهمين في الحلقة، يمسك صاحب الجاه "الفنجان" ويضعه على الطاولة الصغيرة أمام الحضور وكلهم أذان صاغية ينتظرون تلك الكلمات وتتعلق أعينهم بالرجل تكاد لا تسمع نفساً في الصالة المكتظة، ويتكلم الرجل مخاطبا الحضور ناظراً باتجاه أقرباء العروس يبدأ بالصلاة والسلام على رسول الله وال بيته الكرام ويبدأ بكيل المديح لهذه المضارب وأصحابها ويسرد تاريخا مشتركا بين الطالب والمطلوب، أبطال هذه المناسبات والناطقين باسم الجاهات يتمتعون بكثير من المزايا الخاصة التي ربما يفتقدها كثير من المفكرين والأدباء والمبدعين والمثقفين والسياسيين. هم أصحاب مؤهلات وجاهية شكلية لا يحفل بها أكثر أرباب الأدب ورواد الثقافة. لكنهم أصحاب مهارة فائقة في إيصال الرسالة التي جاءوا من أجلها، ثم يختم بأنه ورجاله لن يشربوا قهوتهم حتى يتحقق له ولرجاله مطلبهم.
في الجانب الاخر يقف رجل كبير في السن ويرد بعد كلمات التشريف "اشربوا قهوتكو، واللي جيتو مشانو ابشروا فيه". وتعود الحماسة من جديد الى الحلقة، يقف أحد الرجال و يعطي تعليماته للشباب الصغار الذين يقومون بواجب إكرام الضيوف، تارة يأمرهم بإحضار الماء لهذا و تارة بتشغيل المراوح الموزعة في زوايا الصالة ثم توزع الحلوى.
يبدأ الشباب حركتهم التي كانت متوقفة خلال حديث الكبار ويعود الحضور للحديث بحماس غير مسبوق بذلك يتحقق الهدف من وراء هذه الحلقة الاجتماعية.
النساء ليس لهن أي دور في هذه (اللعبة الاجتماعية) فهنّ مغيبات عن جلسات الجاهة لكنك لا تدري من اين تخرج الزغاريد فجأة يرافقها توزيع الحلويات. وتشعر العروس برضا كبير كيف لا وهي موضع الحديث حديث كل الرجال المهمين في الجلسة.
الشيخ فوزات الطعاني، الناطق الرسمي باسم معظم جاهات منطقة بيت رأس ، مسقط رأسه، يزهو أمام الجاهات بوقفته المنتصبة لم يتوانّ للحظة في تمثيل الدور المطلوب منه على الدوام ببلاغة وفصاحة وبيان، يبين ان الجاهة تبقى من الموروثات الإيجابية التي تكون ذات مدلول اجتماعي كبير تزيد من محبة الناس وتوافقهم .
ويضيف الشيخ فوزات ان الجاهة تخلَّد كما ذكرى يوم الزفاف ويتناقل الناس احاديثها لفترات طويلة، حجم الجاهة ووزنها، ونوعية الكنافة المقدمة كما يتناقلون الاحاديث عن المتكلمين باسم الجاهة لإعجابهم الشديد ببلاغتهم وفصاحتهم، وربما يقتربون منهم بعد انفراط المناسبة ويسألونهم عن مؤهلاتهم وشهاداتهم، فيكتشفون انهم توجيهي قديم، وبعد هذا كله وهذه الطقوس جميها يتفاجأ الكثير من المدعوين للمشاركة في الجاهة ان " الكتاب مكتوب من مدة" وما هذه الا مسرحية .