كنت طفلا عندما سمعت بهذه المهنة للمرة الأولى، وأوشك الأمر ان يختلط عليّ لقربها لغويا على الأقل من مهنة اخرى يقال انها الأقدم في التاريخ.
مهنة البعارة، يمارسها بشر من مختلف الأعمار وهي انتظار موسم الزيتون وبعد ان يفرغ الناس من قطافه، فما يتساقط من حبات الزيتون ولا يجد له مكانا في السلال يبقى بانتظار البعّارين الذين يجمعون من الزيتون ما يكفي لأن يُباع او يُقايض، وأطرف ما في البعارة انها تخلط بين كل أنواع الثمر، فلا هوية أو نوع لما يتراكم منها، وبمرور الوقت وابتعادنا عن الأرض وموسم الزيتون وما كان يحيط به من طقوس فلكلورية.
بدأت أفكر بذلك المصطلح، فوجدت انه ليس حكرا على الشجر والثمر، انه قابل للتأويل سياسيا وثقافيا واقتصاديا إلى ما لا نهاية. فالبعارة في السياسة حرفة ايضا، لها تعاليمها وشروطها، بحيث يبقى من يمارسها خارج الحلبة بانتظار ان تفرغ خشبة المسرح ويغادر النظارة مقاعدهم، عندئذٍ يبدأ بعّارو السياسة في التقاط ما ترسّب في الذاكرة او على الورق من مفردات وعبارات، بحيث يكررها من لم يدفع ثمنها على الاطلاق وقد يتخيل المسرح مكتظا بالحضور وكذلك الخشبة فيستخدم ما تبعّره في الهواء ناسبا العديد من المواقف الى نفسه، اما في الثقافة فإن مهنة البعارة اوضح، واذا كان من المعروف ان لكل كاتب ذي باع في مهنته معجمه الخاص وايقاعه بحيث يمكن ان يحزره القارىء حتى لو كان ما كتب بدون توقيع، فإن البعارة بخلاف ذلك تماما، انها تحشد في سلّة واحدة النبالي وما يسميه اهل الزيتون القرقيع وهو الثمر الصغير المجعّد وكذلك الجرجير المعروف بمرارته، وينعكس هذا اللاتجانس على كل ما يقوله البعّار لأن ما يقوله هو من كل زيتونة حفنة حب، وقد يتسرب الحصى الى هذا الحصاد لأن البعارة تتطلب سرعة فائقة، كي لا يُضبط البعاّر متلبّسا بما يفعل.
والاقتصاد ايضا له بعارته، لكنها من طراز آخر فما يحصل عليه السمسار من صفقة ما هو بعارة بامتياز وما يلتقطه المتربّص بأية مقايضة هو ايضا بعارة، لكنها في النهاية لا تختلف عن بعارة الزيتون، لأن البعّار في التجارة كما وصفه الكاتب اوسكار وايلد لا يفرق بين عملة وأخرى ما دام يحمل الحاسوب في جيبه اما مفاضلته بين زبون وآخر فلا علاقة لها الا بما يحقق من كسب، لهذا يردد البعارون عبارة في كل مجالات عملهم هي تعامل مع اي كائن حتى لو كان مجرما لأنك لن تناسبه !!
ومن يدري، لعل البعارة ايضا من اقدم مهن التاريخ لكنها حملت اسماء اخرى! الدستور